حين اختصمتنى السلطة - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
السبت 2 نوفمبر 2024 5:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حين اختصمتنى السلطة

نشر فى : السبت 5 ديسمبر 2015 - 11:10 م | آخر تحديث : السبت 5 ديسمبر 2015 - 11:10 م
لكل مواطن محيطان للتفاعل، محيطه الخاص حيث بيته وعمله وأسرته وأقاربه وجيرانه وأصدقاؤه وأملاكه، ومحيطه العام حيث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العامة.. إلخ. صحيح أن الفصل الجامد بين المحيطين صعب لأن المواطن بمجرد خروجه من بيته وركوبه وسائل المواصلات والطرق العامة فهو قد خرج من المحيط الخاص إلى العام، لكن تظل تفاعلات المواطن العادى فى معظمها منصبة على المحيط الخاص والتعامل مع المحيط العام بالحد الأدنى من التفاعل إلى أن يقرر واعيا أن يوجه نصيب من طاقته وجهده وتركيزه إلى المحيط العام بكل تفاعلاته فهنا تكون مرحلة التسييس.
«تسييس» المواطنين له درجات مختلفة بحسب درجة مشاركته السياسية؛ بدءا من قراءة الأخبار العامة والتفاعل معها بالنقاشات أو التدوينات مرورا بالمشاركة فى الانتخابات العامة أو المحلية وصولا إلى عضوية الأحزاب والنقابات بل والترشح للمناصب العامة، وفى كل الأحوال فإن هذا الانتقال من المحيط الخاص للمحيط العام يحتاج إلى قدر من الوعى والقدرة على دفع بعض الأثمان وخصوصا لو كان هذا الانتقال من العام إلى الخاص يتم من خلال اتخاذ مواقف معارضة للسلطات القائمة عن طريق العمل السياسى أو الحقوقى أو من خلال الدمج بينهما.
***
قبل عشرة أعوام مثلا كان الشأن العام بالنسبة لى رفاهية تامة، كنت أدرس بالخارج وأتعامل مع الشأن العام كأفلام السينما، ترى أبطال السلطة والمعارضة وتتعامل معهم كنجوم، تكره البعض وتحب البعض الآخر ولكن تظل مشدودا لتحركاتهم وتصريحاتهم. كنت أرى سطوة الحزب الوطنى على الحياة السياسية وأشعر بارتباك شديد تجاه نجومه بين الإعجاب بسلطتهم وشهرتهم وسطوتهم وبين إنكار سياساتهم وانحيازاتهم، كنت أنبهر بمقالات إبراهيم عيسى وفهمى هويدى وبلال فضل وتدوينات وائل عباس وعلاء عبدالفتاح وتحركات البرادعى وأحمد ماهر و٦ ابريل وكفاية وعمال المحلة ولكن كنت أتساءل هل يمكن لمعارض فى ظل نظام سلطوى أن يحقق ما هو أبعد من «الضوضاء»؟
كانت ٢٠١٠ نقطة تحول لى، فالمساحة بين العام والخاص تلاشت تدريجيا، انتخابات مزورة بالكامل، رئيس انفصل عن الواقع تماما، حزب فقد بوصلته ووحد كل أعدائه ضده، تجاوزات الداخلية تخطت كل الحدود مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى والمدونات التى جعلت ما يحدث فى العام فى متناول يدك فى مجالك الخاص. تستطيع أن تعلق وتكتب وتتفاعل بتكلفة قليلة نسبيا بعيدا عن السلطة وبطشها، ثم كانت الثورة والتى أنهت تماما أى مساحة بين الخاص والعام وفتحت آفاقا غير محدودة ولا مسبوقة لحرية الرأى والفكر والتعبير والتنظيم.
***
الآن وبعد تراجع الثورة وهزيمة القوى السياسية التى عبرت عنها بلا أى استثناء، فإن السلطة المنتصرة قد قررت وبشكل واع زيادة مساحة البطش والعقاب لأى شخص أو حزب أو مجموعة تعتقد أنه يوما ما تحداها. حسنا، هذا سلوك سلطوى تقليدى وليس فيه أى جديد، لكن المختلف هذه المرة أنه نتيجة لسوء تقدير وقلة كفاءة وعدم نضج السلطويين فقد قرروا أن يفعلوا ذلك بدون أى حسابات أو سقف وبمنتهى العشوائية والهواية، فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة ببساطة أن السلطة جعلت أثمان السكوت والكلام متساوية، الانكفاء على الشأن الخاص والانشغال بالشأن العام متساويين فى الثمن، لأنه لم يعد هناك مصريا تقريبا إلا وفى محيطه الخاص شخصا يعرفه قد تم إيذاؤه من قِبَل السلطة بدرجات تفاوتت بين الحبس، الاعتداء والتعذيب، السجن والاعتقال، إصدار أحكام الإعدام، أو الوفاة فى السجون.
إذا قرر شخص ما أن يخشى المشاركة العامة أو يتجاهلها لأنه مازال «سائبا» بينما هناك مربوطون يتعرضون للقمع، فقرر أن يأثر السلامة، فإنه مع اتساع نطاق القمع والبطش سيتعرض محيطه الخاص للانتهاك آجلا أو عاجلا ووقتها سيكون من المستحيل السكوت أو الطناش وخصوصا إذا اتسعت الدائرة بحيث شملت أكثر من شخص فى دائرته الخاصة. هنا يكون السكوت مساويا للكلام، ويكون الخاص عاما والعام خاصا وتفقد السلطة قدرتها على الضبط والربط تدريجيا لأنها، وبكل المعايير الانتهازية، قد فشلت فى وضع أثمان متباينة لتخير الناس بين الانكفاء على حياتهم الخاصة وأكل العيش وتربية أولادها بهدوء، وبين المشاركة والمعارضة والمقاومة بكل ما تشمله من انخراط تام فى الشأن العام.
حتى وقد شاركت فى الشأن العام منذ ٢٠١١ فقد ظلت هناك مساحة رفاهية فى أن أنسحب منه فى أى وقت، كان القرار سهلا وبسيطا قبل ذلك، تلقيت رسائل ومكالمات كثيرة من أقارب وأصدقاء وجيران يحذروننى من المضى قدما فى الانخراط فى الشأن العام وكنت أرى عبقرية السلطة فى ذلك. فهى لا تقمعك بنفسها، ولكن تضغط على محيطك فيقوم الأخير بالمهمة التطوعية فى دفعك بعيدا عن المحيط العام مدفوعا بخوفه عليك، وهكذا يكسب الجميع فى لعبة قليلة التكلفة، تسكتك السلطة دون أن تختصمك مباشرة، يكسب محيطك الخاص نقاط قوة فى لعبة تدجينك حتى يتساوى الجميع فى السكوت على التجاوزات دون أن تشعرهم أنت بدورك العام المعارض مما يحرج سكوتهم أو تأييدهم للأوضاع الخاطئة، وتكسب أنت السلامة، فستظل تأكل عيشا وتربى أولادك ربما بأحلام أقل، لكن وما المشكلة؟ أليس هذا أفضل من أن تفقد حريتك أو يفقدوك هم كلية؟
***
الآن الوضع اختلف، فقدت السلطة غوايتها، كما فقدت قدرتها على الضبط وذكائها فى إسكات المعارضين، لماذا؟ لأنها لم تعد تجعل فى الانتقال من المحيط الخاص إلى المحيط العام أى رفاهية، فقد اختصمت محيطك الخاص بشكل جعل معركتك معها معركة شخصية / ثأرية لا معركة سياسية تسمح برفاهيات الأخذ والجذب، الحوار والتفاوض، الشدة واللين.
أنا الآن أتعامل مع السلطة على أنها ند شخصى قام بإيذاء أصدقاء وزملاء وجيران. حبست السلطة زميلى فى الكلية عبدالله شحاتة أستاذ الاقتصاد فى جامعة القاهرة وأجبرته أن يقف أمام شاشات التلفاز ليعترف على نفسه وعلى أخيه وقد ظهرت علامات الإرهاق الجسدى والنفسى عليه فى نشرة التاسعة. حكمت السلطة على أستاذى وأستاذ العلوم السياسية عماد شاهين بالإعدام فى أعنف حكم على أكاديمى مصرى خلال العقود الماضية مصحوبا بحملة إعلامية لتشويهه وإخافة أى شخص يتضامن معه، ثم رفضت السلطة علاج جارى عماد حسن أو نقله للمستشفى للعلاج حتى استجابت أخيرا بعد الوقت الضائع ليلقى عماد ربه فى المستشفى هيكلا عظميا بعد أن تمكن منه المرض اللعين دون رعاية من إدارة السجن، ثم تم حبس زميلى الباحث الأكاديمى الرصين هشام جعفر بتهم يعلم الجميع أنها غير صحيحة ومنع عنه بحسب زوجته ادخال الدواء والزيارة، ثم تم حبس زميلى وصديقى حسام بهجت وكاد أن يتحول إلى محاكمة عسكرية بتهم كانت كفيلة بتغييبه وراء القضبان لسنوات طويلة لولا التطور الدرامى غير المتوقع بإخراجه، ثم كان أخيرا الباحث والصديق إسماعيل الإسكندرانى الذى تم توقيفه فى مطار الغردقة بتهم أقل ما يقال عنها أنها مضحكة ومثيرة للتعجب!!
هؤلاء أصدقاء وزملاء وأساتذة وجيران عملت مع بعضهم وعرفتهم عن قرب، بغض النظر عن اختلافى مع بعضهم سياسيا أو أيديولوجيا، فكيف لى أن أتصرف مستقبلا؟ كيف عساى أن أتحرك فى محيطى الخاص متغاضيا عن كل هذه الانتهاكات؟ هؤلاء الأبرز ولكن هناك عشرات غيرهم أقل شهرة تركوا بلادهم مضطرين ومتخبطين فى بلاد الغربة لا يعلمون كيفية تدبير أمرهم لثلاثة أشهر قادمة. كلهم أعرفهم بشكل شخصى نتحدث أو نتقابل من وقت لآخر ونتباكى على أحوال بلادنا الطاردة لكل كفاءة محتملة بحيث لم يتبقى على إدارة مفاصلها سوى مجموعة من عديمى الكفاءة وعديمى الرؤية اللهم إلا من استثناءات معدودة على الأصابع.
***
هذا واحد من أهم الفوارق بين نظام مبارك والنظام الحالى، الأول كان نظام تعددى سلطوى، لديه سقف ويعرف كيف ومتى يضرب والأهم متى يتوقف، أما النظام الحالى فمازال فى سنة ثانية سلطوية يتصرف كالهواة وهو فى ذلك يضر الجميع بما فيهم نفسه. سيكون من العبث أن تحاول أن تقنعه أو تخاطب العقلاء بداخله، أو حتى تمد يدك له بالعون على اعتبار أن ذلك فى صالح البلد، أقصى ما يمكنك فعله أن تكتب وتسجل عليه أخطائه لعل من يأتى بعده أن يتعلم.
أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر