رمضان.. معقول مضى عام؟ - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 4:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رمضان.. معقول مضى عام؟

نشر فى : الأربعاء 6 أبريل 2022 - 8:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 6 أبريل 2022 - 8:20 م

لشهر رمضان قدرة عجيبة على مفاجأة العالم بأن وقته قد حان. ففى كل سنة أردد ومن حولى جملة تعجبية مثل «معقول؟ هل مضى عام؟ كل سنة وأنتم بخير». ورغم تقدم شهر رمضان كل سنة عن سابقتها وفق التاريخ الميلادى إلا أن حلول شهر الصيام وطقوسه وروحه الخاصة تعنى أيضا مرور سنة كاملة!
•••
معقول مضى عام؟ نعم معقول. ها هم أولادى يقفون عند الشرفة فى دقائق اليوم الأخيرة ينتظرون إشارة، كما كنت أفعل حين كنت فى سنهم. يسود البيت صمت وحركة فى الوقت ذاته، فأنا أتحرك بين الفرن والمائدة وهم كالأصنام عند الشباك يريدون التقاط أول الأذان.
•••
مضت أعوام كثيرة على وقوفى عند الشباك قبيل الأذان، وما أجمله من أذان فى دمشق. أظن أننى وعبر الترحال المتكرر، حملت معى صوت مؤذنى المسجد الأموى ولم أستبدلهم بأذان آخر قط، حتى أن صوتا عذبا استوقفنى أخيرا فى عمان حيث أعيش فشبهته بما كنت أسمعه فى دمشق واختلطت على الأماكن للحظة.
•••
أظن أن كثيرين ممن تنقلوا بإرادتهم أو لأسباب قسرية يعيدون التفكير بعلاقتهم بالأماكن، وأن من أكثر تلك العلاقات إشكالية هى مع مكان لطالما كان البيت أو الوطن ثم توقف عن كونه ذلك. فى رمضان يعود ويظهر لى مكان من وسط الضباب، وكأنه بقعة فى الذاكرة تظهر مرة فى السنة فقط قبل الإفطار تجلب معها أصوات وحركة من كان حينها فى البيت، فى المطبخ، فى الحارة، يظهرون كلهم وكأنه المشهد ما بعد الأخير على المسرح حين يقف الممثلون والمخرج صفا واحدا يحيون الجمهور. أنا الجمهور يقف أمامى أفراد عائلتى وضيوف وبقال الشارع الذى كنت أسكن فيه والجارة المزعجة التى أتذكرها اليوم وجدة رحلت.
•••
هكذا إذا، تعود إلى الواجهة دقائق متوترة قبل الإفطار يبدو من فيها وكأنهم يتحركون دون فائدة فى مساحة ضيقة وكأن الغرض من وجودهم فيه، أى فى المساحة، هو ملئها بأصواتهم وتذمرهم الأخير وانتظارهم الذى يكهرب المكان، بينما تستعجل الأم بحركات يديها وطرطقة الأوانى وتقذف من حولها بتعليمات سريعة بينما هم ينتظرون الإشارة من الشباك.
•••
هل هذا وصف كاريكاتورى؟ ممكن. هل ما زال السواد الأعظم ممن حولى يعيش هذه الحالة فى المطبخ عند الإفطار؟ لا أعرف. هل امتزجت فى هذا التصور تفاصيل عشتها وأخرى أرددها مع غيرى كل سنة وأشتاق إليها؟ يجوز. أنا نفسى تذمرت منذ أيام من إعلانات رمضان النمطية التى تتكرر كل سنة وتظهر عائلات مثالية فى علاقاتها أثناء الشهر الفضيل فردت على صديقة أن أحلى ما فى رمضان هو اجتماع العائلة. ربما ما زال لرمضان ذلك الأثر الساحر على عائلات ينشغل أفرادها بأمور تفرقهم ولا يجبرهم على الاجتماع سوى الإفطار فى رمضان. ربما هم مجبرون على الاجتماع حول الإفطار وها هى المائدة بغض النظر عن ما تحمله هى بمثابة هدنة أو منطقة منزوعة السلاح لا يجوز على من عليها أن يستمروا بالنزاع.
•••
ربما لم يبق الكثير مما يجمع أشخاص فرقتهم الأحداث المهولة التى عاشها جيلى فى السنوات الأخيرة، ربما لرمضان جرعة مضاعفة من الشعور بالبعد والغربة، وبالتالى تأتى معه حاجة مضاعفة للألفة واللمة. ربما ما زال لشهر الصيام، حتى عند غير الصائمين مسحة من الشجن والحاجة للتواصل مع مكان وزمان بمن فيهما من أشخاص لم يعد بعضهم موجودا. اليوم يرافق رمضان طقوس أظن أنها حديثة من زينة ولباس خاص كالقفطان للنساء وأنوار صارت تظهر داخل وخارج البيوت. كما معظم المناسبات اكتسب رمضان أيضا طابعا تجاريا رحب به البعض واستهجنه آخرون.
•••
ها هو إذا شهر الصيام و«لمة العائلة» والإفطار والتراويح والسحور والمسلسلات والعطاء والتبرع بالمال والشعور بالغير (رغم أننى لطالما تساءلت عما يحدث للغير خارج شهر الصيام لكن ما علينا). ها هو أيضا شهر العودة إلى قناتين فى التلفزيون لا غير ومسلسل مصرى سنوى يشاهده متحدثو اللغة العربية من المحيط إلى الخليج، هو شهر ساعات المدرسة الأقصر كما هو أيضا أقصر «طول بال» أمى والكبار من حولى. هو شهر يفاجئنى كل سنة بظهوره وكأنه ضيف الغفلة، أو ضيف أتوقع زيارته لكنه يصل قبل الميعاد فأرتبك وأفرح به فى الوقت ذاته. أريده ضيفا خفيفا يحبه أولادى الذين لم يسمعوا الأذان فى دمشق قط ولا يعيشون قرب عائلتى فأخاف ألا يتمسكوا برمضان حين يكبرون ويشقون طريقهم بدورهم.
•••
يقال إننا نسقط الكثير من شجننا وارتباطاتنا على أولادنا ونفرضها عليهم، اللهم إلا من قرر بشكل واع ألا يفرض إطاره على أطفاله وأنا أعرف أننى لست من هؤلاء. أقف فى المطبخ قريب وقت الإفطار وأكاد أتعمد أن أتوتر وأوتر من حولى، أطلب أن يفتحوا الشبابيك ليستمعوا إلى ميكرفون الجامع حين يبدأ هو الآخر بإصدار طرطقة قبل أن يذاع الأذان، فنحن أصلا فى عصر الأذان المسجل وليس البث الحى. تنبعث رائحة الثوم المقلى وصوت السمنة وهى تحرق وجه الطبق، وها أنا أسحب كرسيا وأرمى نفسى عليه وأنا أصرخ بدورى «يللا يللا كله عالطاولة يا ولاد، يللا الدنيا رمضان ما حدا يستنى حدا».

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات