وسادة القمح الصينية - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وسادة القمح الصينية

نشر فى : السبت 6 مايو 2017 - 11:00 م | آخر تحديث : السبت 6 مايو 2017 - 11:00 م
عندما يزداد عدد السكان، طبيعى أن يكون الهاجس الأول لمن يحكم هو إطعام شعبه وتحقيق أمنه الغذائى. مجرد فكرة تراودنى قبل النوم على وسادة تقليدية من القمح فى الصين التى يبلغ تعدادها 1.3 مليار نسمة. الوسادة الرفيعة المليئة بالحنطة السوداء والتى تعلوها أخرى عادية من القطن أو الإسفنج، على سرير الفندق ببكين، تريح الرقبة دون شك، لذا قلدتها بعض الشركات التجارية حول العالم وصارت تروج لها عبر الإنترنت بعد إضافة بعض التعديلات كتسخينها لعلاج الآلام. لكن هى أيضا قد تعطى شعورا خفيا بالأمان لمن يأتى من بلد كمصر استورد خلال النصف الأول من سنة 2016 أكثر من خمسة ملايين طن قمح من 12 دولة. حركة الحبوب أسفل الرأس بها شىء مريح، يعد ربما بأحلام الرخاء، وبالفعل نطق كلمة قمح باللغة الصينية يقترب من معنى الوفرة أو الخصب، إذ يشبه نطق كلمة أخرى تشير إلى كثرة الأولاد.
فكرة الأمن الغذائى والسياسة الزراعية لدولة مزدحمة يجب أن تحسن استغلال كل شبر من أراضيها ألحت على مجددا خلال تناول الغذاء فى مطاعم الصين التقليدية، حين جلسنا حول طاولة مستديرة، يتوسطها قرص متحرك يدور على الزوار الذين يلفونه يدويا ليتوقفوا عند الطبق الذى يريدون اكتشافه أو تذوقه. مثلا سبق تقديم البط البكينى الشهير، أطباق من المقبلات والخبز المصنوع على البخار، بعضه أصفر اللون لأنه من دقيق الذرة وبعضه أكثر بياضا لأنه من القمح، وقد تم تشكيله على هيئة بطات صغيرات ليتماشى مع اختصاص المطعم، تلاه نوع آخر من الفطائر الطرية التى يتم وضع شرائح البط بداخلها مع إضافة قليل من البصل الأخضر والخيار والصوص البنى. أما فى مطاعم أخرى، فكان الأرز المسلوق على البخار يتصدر المائدة بشكل ملحوظ ويتوارى الخبز، وفى أحيان تكون السيطرة لنوع مختلف من خبز القمح شبيه بمثيله الأفغانى، كما فى مطعم جاء أصحابه من منطقة شينجيانج أو سنجان، شمال غرب الصين ذات الأغلبية المسلمة والتى يضم سكانها عددا من الكازاك والطاجيك، ما يبرر اختلاف شكل الخبز ربما، فالصين تحتوى على 56 أقلية إثنية تعيش موزعة على مساحة 9.6 مليون كم مربع.
***
ما يبرر أيضا طبيعة المأكولات سواء الخبز أو الأرز أو غيرهما هى طبيعة الإقليم الذى ينتمى له القائمون على المطعم، فإذا أردنا التعميم بشكل مختصر فقد نكتفى بقول إن الأرز ينتشر فى الجنوب والقمح فى الشمال والوسط، وإن الفلاحين يزرعون محصولين مختلفين من الحبوب فى السنة وأحيانا ثلاثة فى مناطق الجنوب المشمسة حيث الماء الوفير. لكن الموضوع أكثر تعقيدا، فالسياسة الزراعية للصين تعكس طريقة تطور البلاد ونهجها فى النمو منذ بداية عمليات الإصلاح الاقتصادى فى عام 1978 وتحولها تدريجيا من مجتمع زراعى بالأساس إلى مجتمع صناعى، ومن مجتمع أغلب سكانه يعيشون فى الريف إلى تمدين عمرانى ملحوظ، ومن مركزية التخطيط الخاصة بالنظم الاشتراكية إلى اقتصاد السوق أو «اشتراكية السوق الحر» الفريدة من نوعها، فمنذ الثمانينيات أصبح هناك مجال لأصحاب الأفكار المبتكرة أن يحققوا ثراء دون اعتبارهم رأسماليين، ماداموا يساعدون فى تنمية الاقتصاد وماداموا يتركون الحكم للحزب الواحد.
كان دوما تحقيق الاكتفاء الذاتى خاصة من الحبوب والغلال على رأس الأوليات عندما تم وضع نظام احتكار من قبل الدولة وتحديد أسعار الشراء ودعم الفلاحين لتكوين مخزون قومى على مر السنين، حتى صار لدى الصين حاليا 30% من مخزون القمح العالمى و45% من مخزون الذرة. وبعد أن كانت تستورد نحو 10 ملايين طن من الحبوب والغلال ( منها 8.3 مليون طن قمح) سنة 1996، أصبحت تنتج 616.24 مليون طن من الحبوب سنويا، وفقا للأرقام الرسمية لعام 2016، وهى معدلات ثابتة تقريبا خلال الثلاثة عشرعاما الأخيرة، أى منذ 2003. ولازالت تستورد ما تبقى من احتياجاتها، إلا أن العجز قد تضاءل بشدة، فهى تحتاج إلى 700 مليون طن لتحقيق الاكتفاء الذاتى، تبعا لتقديرات الخبراء. ونظرا للتحولات الاقتصادية وتغير أنماط الاستهلاك داخل المجتمع الصينى وفائض الإنتاج من الذرة والأرز، كان لابد من إتخاذ إجراءات إصلاحية جديدة فى مجال الزراعة خلال السنوات الأخيرة، لتغيير شكل المساعدة التى توفرها للفلاح، بتقديم دعم مالى مباشر للمنتجين يعوضهم عن الفارق بين سعر السوق والسعر المثبت سلفا والذى اعتادت الدولة تحديده. كذلك سيتم تنويع المحاصيل بما يتناسب مع ارتفاع مستوى المعيشة واختلاف الأذواق.
***
إحدى أقدم دول العالم الزراعية تتكيف مع مرحلة جديدة من تاريخها الذى ترويه السواقى القديمة العملاقة داخل مزرعة نموذجية على بعد آلاف الكيلومترات من العاصمة. وعلى الطريق، نلمح بيوت الفلاحين التى تم تشييدها أخيرا على يد من عادوا إلى القرية بعد سنوات من الاغتراب والعمل فى المدينة. بيوت تشبه مثيلاتها فى الريف الأوروبى مع بعض التصرف الصينى أحيانا، تغوص وسط خضار يستمر على مرمى البصر. بعض هؤلاء ذهب ليعمل ربما فى الجزائر أو فى دول إفريقيا السوداء، فحتى الآن هناك 43 فريق عمل صينى يضمون 189 خبيرا زراعيا يعملون فى 34 دولة إفريقية.. ومشروع إعادة إحياء طريق الحرير القديم أو ما يسمى بمبادرة «الحزام والطريق» لا يزال فى بداياته، على أمل أن تستوعب دول المنطقة الدرس وتحاول النوم على وسائد من القمح، ضمن أشياء أخرى كثيرة، خاصة بعد حضور قمة بكين فى منتصف الشهر الحالى.
التعليقات