هيلا يا ليصا - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هيلا يا ليصا

نشر فى : السبت 7 أبريل 2018 - 9:35 م | آخر تحديث : السبت 7 أبريل 2018 - 9:35 م

وجه تشوبه الحمرة، مصنوع كالبحر من الشمس والملح، وشوارب يقف عليها الصقر، يخرج من تحتها صوت مبحوح جهورى ليردد أغنية: « هيلا هيلا يا ليصا، بحرنا كبير، يا ليصا، اسطح وصلح، يا ليصا، بلغنا السلامة، يا ليصا، ومعانا ريس..«.. تبتعد المركب عن الشاطئ، بدفعة تلو الدفعة من العصا الطويلة التى يجذبها البحار نحوه، وهو يغنى مع رفاقه فى الرحلة، بينما هم ينظفون السطح الخشبى للسفينة. يندفع المركب إلى الماء بشكل إيقاعى منضبط وتندفع معها الأغنية التى تعدد صفات «الريس« أو الملاح، موجه الدفة والخبير باتجاهات الريح وطرق البحر، فعليه تقع مسئولية القيادة فى المجهول الواسع.
«يا ليصا« هو نداء يوحد البحارة والصيادين فى كثير من الدول العربية، وهى كلمة يصعب معرفة معناها بالضبط كالعديد من الكلمات التى تزخر بها قواميس أغنيات فروع العمل المختلفة، لكن ربما هى مأخوذة عن الفصحى« لاص الشيء ليصا أى حركه عن موضعه وأداره لينتزعه، أو ابتعد عن الشيء وحاد عنه«، كما تشير المعاجم، فى كناية عن البعد بالمركب عن الشاطئ وتحريكها ونزعها من مكانها.

***

لطالما أحببت هذه الأغنيات التى كان يصدح بها العمال لضبط إيقاع العمل وشد الأزر، والتى تشى بالحماسة والاستمتاع تجاه ما يفعلون.. ولا أعرف بما يفكرون حاليا عندما يمتنعون عن الغناء فلا يشاركونا مخاوفهم وهمومهم، ويكتفون بحبس الأنفاس بين ضلوعهم ومعها الكثير من العنف والطاقة التى قد تكون سلبية بحكم ضغوطات الحياة. يستمعون لأغنيات النواح والفرح الشعبية بأعلى صوت، لكن غالبا دون أن تنطلق ذبذبات صوتهم بشكل جماعى كفيل بأن يروح عن النفس ويهدأ المشاعر، كما كان يحدث فى السابق أو مثلما كنا نلاحظ فى أغنيات سيد درويش عن الطوائف المختلفة من الشغيلة. كانت القاهرة، عندما أتى إليها الشيخ سيد درويش عام 1917، تشهد تحولات سياسية واقتصادية كبيرة، فقبل ثلاث سنوات وضعت مصر تحت الحماية البريطانية، وخلعت الخديوى عباس حلمى وعينت السلطان حسين كامل. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى اتخذت انجلترا من مصر قاعدة عسكرية لجيوشها وترتب على ذلك تغيرات فى السياسة الزراعية لمصر والاتجاه لمحاصيل غذائية أخرى توفر احتياجات الجيش البريطانى، كما أن وجود مثل هذه القاعدة فى مصر كان يستلزم ايجاد وسائل نقل من سكك حديد وطرق، وكان لابد من أيدى عاملة للقيام بأعمال الحفر وشق الطرق، فلجأت السلطات إلى جمع الأنفار من جميع أنحاء مصر للعمل بالسخرة، ما أثار سخط المصريين وعبر عنه سيد درويش بالكلمات والألحان التى كانت تشبه هؤلاء الناس ومأخوذة عنهم ومنهم، فانتشرت الحكايات حول الموسيقى الفذ الذى كان يمشى وراء السقايين مثلا ليعرف ما يقولون وينقل عنهم، ويعيد تركيب أعمال تعبيرية كالسهل الممتنع، يغنيها المؤدون أو أى شخص وليست بحاجة لمطربين. ومن خلال مثل هذه الأغنيات وغيرها مما أفرزه العمال بشكل مباشر توارثته الأجيال، عرفنا جزءا من تاريخ البلاد، جزء حمله التراث الشفهى إلينا ببلاغة وخفة دم مثل أغنيات «هيلا يا ليصا« التى تنتقل من مشاعر الخوف والغدر إلى الابتهالات والأدعية طلبا للعون والبركة، إلى نزعة صوفية تثريها حكمة البحر والانتظار، إلى توق البحار للحبيبة التى تمثل شط الأمان، وإلى الصبر على الرزق والعناء والشقاء.

***

كل هذه المعانى نفسها تجسدت أيضا فى ألحان السمسمية وأغنياتها التى أرخت هى الأخرى لمرحلة من حكاية المصريين، فنجد فى أغنيات الضمة اللهو والضحك وما يدفع للتمايل والرقص والحنين إلى الوطن ومديح الرسول عليه الصلاة والسلام والشكوى من هجر الحبيب. لا تزال أغنيات الضمة تنتشر فى مدن القناة، خاصة أيام شم النسيم، وقد وردت عليها بالطبع بعض التغيرات، فالغناء هو نوع من التطهر العذب الذى يشبه الحياة ويرويها بصدق على ألسنة البسطاء.. بحار يتوق لشيء بعيد مجهول، حادى إبل فى الصحراء أو جندى يشاركه الهموم والمخاوف فى الصحراء نفسها... كثير من المشاعر المكبوتة والأمنيات، أمزجة وأوقات حلوة ومرة.

التعليقات