كلية العلوم بجامعة القاهرة من أعرق الكليات في مصر. تخرج منها ودرَّس فيها نجوم لامعة كثيرة في تاريخنا العلمي الحديث مثل الأساتذة الكبار علي مصطفى مشرفة وأحمد زكي عاكف وأحمد رياض تركي ومحمود حافظ وحسن أفلاطون وغيرهم وقد تحدثنا عن بعضهم في مقالات سابقة وسنتحدث عن آخرين في مقالات لاحقة إن شاء الله.
أثناء زيارتي الأخيرة للقاهرة، تلقيت دعوة من الدكتورة ريم حمدي الأستاذ بقسم النبات بعلوم القاهرة لزيارة معشبة (Herbarium) القسم، المعشبة في أي قسم لنبات تعني بتجميع وتصنيف الأنواع المختلفة من النباتات في البيئات المختلفة مع تجميع أكبر قدر من المعلومات عنها وهو دور غاية في الأهمية للمحافظة على النباتات المختلفة والتنوع البيئي وهو من أهم عناصر الحياة على الأرض خاصة في عصرنا هذا الذي تتقلص فيه المسحات الزراعية ويزداد فيه التلوث والإحتباس الحراري.
عندما لبيت الدعوة، اكتشفت كنز كبير من كنوز تراثنا العلمي وسأحاول اليوم نقل بعض ما رأيت.
معشبة قسم النبات في كلية العلوم بجامعة القاهرة لها تاريخ طويل ومضيء يمتد لأكثر من سبعة عقود. أنشئت المعشبة على يد الأستاذة السويدية الراحلة فيفي تاكهولم (1898-1978). التي جاءت إلى مصر في سنة 1926 مع زوجها جونار تاكهولم ليبدأ الإثنان أبحاثهما عن النباتات في كلية العلوم بجامعة القاهرة. ولكن الزوج توفى سنة 1933 وأكملت هي المسيرة لتبني بحق واحة علمية كبيرة هي معشبة قسم النبات التي تعتبر الأكبر في أفريقيا؛ بل ومن أهم المعشبات في العالم. لكل ذلك استحقت فيفي تاكهولم التمثال الكبير الذي تم وضعه في المعشبة تخليداً لأبحاثها ومكتبتها العلمية الزاخرة المحفوظة هناك.
يجب هنا أن نذكر أن عالم كبير آخر هو الدكتور محمد نبيل الحديدي أكمل المسيرة بعد وفاة فيفي وأنشأ مكتبتها داخل المعشبة وقد إفتتحتها ملكة السويد و هو دليل آخر على المكانة العلمية المرموقة لتلك المعشبة وعلى التقدير الكبير للعلماء الكبار الذين حملوا الشعلة بعد فيفي تاكهولم مثل الدكتور محمد نبيل الحديدي (الذي سنخصص له مقالاً في المستقبل) ومحمد عبد الفتاح القصاص (الذي تكلمنا عنه في مقال سابق).
تضم مكتبة المعشبة ثلاثة مكتبات أنشأها كبار العلماء: الأولى هي المكتبة العلمية لفيفي تاكهولم والتي تحتوي على أمهات الكتب والمراجع في علوم النبات بالإضافة إلى أبحاثها الخالدة أما المكتبة الثانية فهي متخصصة في مجال العلوم البيئية أنشئت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي وتحمل اسم العالم الكبير الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص، أما المكتبة الثالثة فقد أضيفت سنة 2003 بعد رحيل الأستـاذ الدكتور محمد نبيل الحديدي وأطلق عليها إسمه لتضم المعشبة ثلاث مكتبات تحمل أسماء ثلاثة نجوم لامعة في علوم النبات والبيئة . وهذه المكتبة العامرةأصبحت منذ إنشائها قبلة الباحثين من جميع المراكز البحثية والجامعات المصرية والعربية.
تضم المعشبة أيضا متحفا لتوثيق التاريخ علم النباتات وتطوره وهو أمر مهم جدا، إذ أن توثيق تراثنا العلمي في جميع المجالات أمرا ضروريا حتى تتعرف الأجيال الجديدة على إسهامات الأجيال السابقة وتستفيد منها في نفس الطريق وبكفاءة أفضل نتيجة تراكم العلوم والدروس، لذلك أحرص دائماً في أغلب المواد الدراسية التي أدرسها للطلبة أن أبدأ بتاريخ المادة العلمية وكيف وصلت إلى النقطة الحالية (وقد تكلمنا في مقال سابق عن أهمية دراسة تاريخ العلوم).
تلك المعشبة أصبحت لها سمعة دولية نظراً لتصنيفها الدقيق للنباتات المصرية ومنها نباتات تعود للعصور الفرعونية وتعد أكبر مدرسة بحثية لتصنيف النباتات (الفلورا) في منطقة الشرق الأوسط كله وقد حرص الأستاذ الدكتور محمد نبيل الحديدي رحمه على تعريف طلاب الماجستير والدكتوراه بنظم العمل في معشبات العالم في البلاد المتقدمة في هذا التخصص مثل بريطانيا وألمانيا والسويد وبلجيكا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وساعد ذلك على إقامة علاقات طيبة بين المعشبة وبين تلك المعاهد العلمية مما ساعد على نقل الخبرات العملية بينهم وتدريب الأجيال الجديدة من الباحثين في مصر ونتمنى ألا تنقطع تلك الصلات فالعلم قائم على نقل الخبرات والمعارف وليس على التنافس أو الإنعزال.
لا شك أن المجهودات التي منحت هذه المعشبة مكانتها المميزة يجب أن تستمر لتظل قبلة الطلبة والباحثين من مصر والدول العربية وأفريقيا، ويجب أن تدخل عصر الرقمنة –التي أظن أنها تأخرت في دخوله- حتى يستطيع الباحثون الوصول إلى المعلومات بسهولة وحتى لا تضيع العينات أو تتلف مع مرور الوقت.