لو لم تكن مصريًا، فماذا تود أن تكون؟ - أنيسة عصام حسونة - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لو لم تكن مصريًا، فماذا تود أن تكون؟

نشر فى : الثلاثاء 9 يونيو 2009 - 8:19 م | آخر تحديث : الثلاثاء 9 يونيو 2009 - 8:19 م

نعرف جميعا بالطبع هذا القول المأثور للزعيم مصطفى كامل «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا» وهى جملة شهيرة وردت على خاطرى كثيرا فى السنوات الماضية متسائلة عن استمرار صلاحيتها فى هذه الأيام التى تشهد طلبات الهجرة المنهمرة على السفارات الغربية.

تجددت أشجانى حولها بالنظر إلى ردود الفعل الكثيرة فى الشارع المصرى لزيارة أوباما الأسبوع الماضى والتى صاحبها، على تنوعها، التعلق بهذا الحلم الأمريكى حول الفرص المتاحة للإنجاز وتحقيق الأمانى والرغبة العارمة للشباب، وللكبار أيضا، للالتحاق بأرض الأحلام.

وقبل أن تطالنى اتهامات انعدام الوطنية وفقدان الحس القومى والتأكيدات على أن هذه مشاعر قلة قليلة لا تعبر عن الغالبية المؤمنة بشعار «لا تقل ماذا أعطتك مصر بل قل ماذا أعطيت لمصر؟»، أؤكد لكم جميعا أن مقولة مصطفى كامل التاريخية أصبح يشار إليها حاليا فى معرض الحديث عن الأحوال السيارة، مصحوبة بابتسامة مستهجنة أو ساخرة فى كثير من الأوساط على اختلاف ثقافتها أو مستواها الاجتماعى، بينما لا ينبرى أحد ــ إلا قليلا ــ للدفاع عن هذا المفهوم أو تأييد تلك القيمة العليا من الانتماء أو الحماسة الوطنية التى عاصرناها فى طفولتنا.

إذا كان هدفنا المشترك هو استعادة روح الفخر والرضا بالانتماء للوطن، فلا بد أن نبحث عن جذور الأسباب التى تحول دون ذلك، وأولها التسليم بأن الأفراد لا يمنحون أوطانهم شيكات على بياض أو يوقعون على عقود إذعان بالقبول بالأحوال أيا كانت بغض النظر عن المقابل لذلك. وبرغم أن المصريين جميعا راغبون فى الانتماء، بل ومحتاجون بشدة إلى هذا الشعور الدافئ من الأمان الذى يوفره التكاتف المجتمعى والإيمان بالأهداف المشتركة، فإن ذلك كله لا يمنع السؤال عن «ماذا أعطتنى مصر؟». وهو سؤال شديد المشروعية يدعمه منطق المساواة المطلقة فى الواجبات والحقوق بين الجميع. فالانتماء، كما هو الحال فى جميع العلاقات الإنسانية، طريق ذو اتجاهين، وبلغة الاقتصاد والمال السائدة فى عصرنا هو رصيد فى «حصالة» أو «حساب توفير» تودع فيه عبر الزمن مساهمات الطرفين، المواطن بأدائه لواجبه والدولة بتوفيرها لحياة آمنة ومستقبل أفضل، ليتم السحب من ذلك الرصيد واستخدامه فى أوقات الشدة والأزمات بالشكل الذى يعكس صلابة معدن العلاقة الراسخة بين الطرفين.

وأنا لا أجادل فى أن المظاهر الايجابية لهذه العلاقة «الانتمائية» تظهر فى كثير من الأزمات والمواقف، ليس أقلها مباريات المنتخب القومى، والتى أشير إليها على وجه الخصوص لأسباب شخصية كروية ليس إلا. ولكن القضية هى أن ما أتحدث عنه يذهب أبعد من الفرضية المسلم بها من أن مصر تأتى أولا حيث لا مراء أن وشائجنا معها تضرب جذورها فى أعماق قلوبنا. لكننى معنية فى المقام الأول بالإحساس بالسعادة والرضا والاكتفاء بهذا الشعور بالانتماء حيث يوفر لى وطنى سكنا آمنا، ووظيفة لائقة، ويحمينى من مهانة العوز والاحتياج، ويعطينى الأمل فى مستقبل أفضل، ويتيح لى أن أكون عائلة أستطيع كفالتها، ثم تدعمنى وتحمى ظهرى سفاراته إذا ذهبت للعمل أو الإقامة فى أرض الله الواسعة، وقبل ذلك وأهم من ذلك كله يضمن لى دائما أن مساهمتى فى «حساب الانتماء» وما أودعه فيه عبر السنين لا يذهب لغيرى، ولا يصرف لغير المساهمين ممن يستغلون مجهودى المتراكم بغير وجه حق ودون استحقاق مشروع، والأكثر من ذلك دون احتياج حقيقى لذلك... فلهم «أرصدة أخرى» فى «أوطان أخرى».

وعند إحساسى بأن رصيدى فى صندوق «الانتماء» الافتراضى هو فى الحفظ والصون، فلن أحتاج حينئذ إلى أن أسال ماذا أعطتنى مصر؟، لأننى سأكون متمتعا بالفعل بعطاياها لى وسأشعر بالرضا كل صباح عندما أؤدى عملى بإخلاص لصالح وطنى وشركائى فى هذا الوطن، وستصبح الأغانى الوطنية ذات مذاق جديد، وتعود مفرداتى اليومية عربية خالصة لا أحتاج لتطعيمها بمصطلحات أجنبية لأثبت تميزى على الآخرين، معلنا برطانتى جدارتى بالحصول على جنسية أخرى يقطع البعض من أجل عيونها الفيافى وبحور الظلمات ضمانا لمستقبل وحياة أفضل لأطفالهم.

فدعونا لا نظلم الشباب ونصادر طموحاتهم فى السعى إلى حياة أفضل تداعب ملامحها أحلامهم فى ظل السماوات المفتوحة، التى تخلق عروضها الساحرة لديهم الرغبة المشروعة فى التمتع بما تتيحه لهم مباهج الحياة، أسوة بأقرانهم فى أركان المعمورة، من حياة سعيدة تحفظ كرامتهم الإنسانية، وتحقق لهم الحد الأدنى من الاحتياجات البشرية. ولننحِ جانبا التحليلات الفلسفية والنظرية حول دوافع الشباب للإذعان لشروط عصابات المهربين إلى شواطئ شمال المتوسط، لنسلم بأن قبولهم المغامرة بحياتهم دافعه الوحيد الأمل فى فرصة أفضل وليس الطمع فى المزيد، وإن كان ذلك أيضا مشروعا فى عرف الحيتان الكبيرة المستقرة فى نفس الوطن متمتعة بالأمن والحماية. فلنقترب من هؤلاء الشباب الراغبين فى الانتماء فى حال توافر متطلباتهم واحتياجاتهم، ولنحترم عقولهم، ونعمل على تحقيق أحلامهم دون وصايتنا عليهم مفترضين احتكارنا للحقيقة.

إن ما نعانى منه حاليا هو مسئولية متراكمة لأجيال متعاقبة ظنت أن الانتماء قضية مسلم بها، مهما أفرغناها من محتواها، وأن الأجيال الشابة التى لم تمارس على أرض الواقع معنى الحلم القومى، ولم تمر بالأحداث الجسام التى تصهر الأوطان فى بوتقة الإحساس المشترك، والتى لم تعلم بالحروب والانتصارات ــ بل وأيضا بالهزائم ــ إلا من خلال كتب التاريخ والأعمال الفنية، مطالبة بالانتماء والاعتزاز بالوطن، حتى ولم يبادلهم هذا الوطن حبا بحب. حتى لو تخلت طوابير الصباح فى مدارسنا الابتدائية عن السلام الوطنى ورفع العلم والهتاف الجماعى للبراعم الصغيرة بأن «تحيا جمهورية مصر العربية»، وحتى لو أصبح معيار التميز هو الثراء المادى وليس الثراء الثقافى والفكرى، وأصبحنا نصدق أن من يحصل على مائة بالمائة فى الثانوية العامة لا يستطيع الالتحاق بالكلية التى يبتغيها، مسجلين بذلك سابقة لا نظير لها فى العالم لشعب يحقق طلابه هذه المجاميع الخارقة ومع ذلك ليس له إنتاج علمى يذكر، وملتحقين بموسوعة جينيس فى عدد الأغانى الوطنية «الموسمية» التى يشارك بها على نفس المسرح نحو نصف المليون راقص وراقصة، فى فوضى سمعية وبصرية وذوقية تهتف بحب مصر التى نفديها بالروح والدم ونستخسر فيها بعضا من إتقان العمل.

فلنعد النظر فى أحوالنا بصدق ومصارحة فجميعنا مذنبون بدرجة أو بأخرى، وكلنا مطالبون بتحسين أحوال الوطن وقاطنيه ليصبح الانتماء له مصدرا للفخر ومحلا للاعتزاز. فنحن جميعا نحبه ولكننا نحتاج أيضا وبشدة إلى أن يحبنا هو الآخر.  

أنيسة عصام حسونة  كاتبة وباحثة سياسية
التعليقات