رغم التحفظ الأمريكى، تفتأ تقارير إسرائيلية وغربية تؤكد اعتزام، نتنياهو، توجيه ضربة عسكرية، منفردة، ضد المنشآت النووية الإيرانية. فيما تنتهج إدارة ترامب مسارا تفاوضيا يوشك أن يُنتج اتفاقا نوويا جديدا وناجزا مع طهران.
لما كان نتنياهو يعتبر امتلاك إيران للأسلحة النووية تهديدا وجوديا لإسرائيل؛ فقد أصر على تفكيك البرامج النووية والصاروخية الإيرانية، كلية ونهائيا، أسوة بالنموذج الليبى لعام 2003. ويخشى، نتنياهو، عواقب استغلال الإيرانيين اندفاع ترامب لإدراك اتفاق نووى، بأى ثمن، أسوة بسلفه الأسبق، أوباما، الذى تعجل اتفاقا سيئا، عام2015، اضطر ترامب للانسحاب منه عام 2018. ويرى تيار مقرّب من نتنياهو، ويحظى بدعم الجيش والمعارضة، فى استهداف منشآت إيران النووية اليوم، أمرا ملحا وفرصة ذهبية. فعلاوة على تعثر المفاوضات النووية، جراء تمسك إيران بتخصيب اليورانيوم، تعتبرها تقديرات استراتيجية، اليوم، أضعف جهوزية عسكرية، وأقل قدرة على الردع. بعدما تلقت أذرعها فى لبنان، وفلسطين، واليمن، وسوريا ضربات متتالية، كما سقط النظام الأسدى الموالى لها، بينما تعرضت لهجمات إسرائيلية موجعة ومهينة، فى أبريل وأكتوبر2024. تم خلالها تدمير دفاعاتها الجوية، من منظومات صواريخ أرض - جو محلية الصنع، منظومات صواريخ «إس-300» روسية الصنع، علاوة على منشآت نووية. ويخشى، نتنياهو، ألا تستمر حالة الضعف هذه طويلا، مع سعى طهران لتعزيز قدراتها الردعية، عبر إعادة نشر وتنويع منصات الإطلاق، والرادارات، ومنظومات الدفاع الجوى، والمسيرات المضادة للطائرات، بالقرب من المواقع النووية المهمة. ورغم مطالبته إسرائيل بإرجاء تلك الضربة، لإنجاح المفاوضات، يرى أصحاب هذا الرأى أن وجود، ترامب، فى البيت الأبيض، يُشكل فرصة، قد لا تتكرر، لتقويض المنشآت النووية الإيرانية. فحتى لو هاجمت إسرائيل إيران، دون موافقة واشنطن أو تنسيق مسبق معها، ستدافع الأخيرة عنها ضد أى رد إيراني.
وحتى لا تؤدى المفاوضات النووية إلى تقويض مخططاته العسكرية حيال إيران، أمر، نتنياهو، الجيش بالاستعداد لهجوم منفرد، الشهر المنقضى. وفور صدور التقرير الأخير لوكالة الطاقة الذرية بشأنها، اتهم، نتنياهو، إيران بالإصرار على استكمال برنامجها لإنتاج الأسلحة النووية، عبر مواصلة تخصيب اليورانيوم بنسب عالية، بما يستوجب تحرك دوليا عاجلا للجمها.
أما وقد أضحى مستقبل، نتنياهو، السياسى مرتهنا بمآلات الحرب على غزة، فقد جنح للتهدئة فى القطاع، مرحليا، لاسترضاء أسر الأسرى الإسرائيليين، واحتواء الضغوط الغربية. إذ وافق على مبادرة، ويتكوف، المعدلة، بقصد إعادة التموضع لخوض معركة ملحة على الجبهة الإيرانية، التى تشكل الخطر الوجودى الأعمق. ويبدو أن فشل نتنياهو فى بلوغ «النصر المطلق» بغزة دفعه للبحث عن ساحة أخرى لتحقيق إنجاز عسكرى يعوض به ذلك الفشل.
قد تجلى ذلك التصور فى تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلى، التى ربط فيها ما بين قبول مقترح، ويتكوف، وضرورة التفرغ للجبهة الإيرانية. ولحسابات سياسية داخلية، يبالغ، نتنياهو فى تضخيم تهديد إيران والترويج لضربة عسكرية إجهاضية لبرنامجها النووى. حيث ينشد تبرير عسكرة السياسة الخارجية، واستجداء توافق سياسى لدعم حكومته المهترئة، حتى يضمن استمرارها، والبقاء على رأسها ضامنا لأمن إسرائيل.
رغم تمكنها من توجيه ضربات مباشرة ضد إيران فى أبريل وأكتوبر2024، لا تبدو إسرائيل بمفردها، قادرة على تنفيذ عملية عسكرية شاملة، ناجحة وآمنة، للإجهاز على منشآت إيران النووية. فإلى جانب الضوء الأخضر الأمريكى، تحتاج دعما استخباراتيا، لوجيستيا وعسكريا مباشرا. وبينما تنتوى الاعتماد على مقاتلاتها الشبحية من طراز «إف -35»، المسلحة بقنابل دقيقة من طراز «بى إل يو-109»، زنة 2000 رطل، أو قاذفات من طراز «إف-15» تحمل قنابل «جى بى يو-28 »، زنة 4000 رطل. سيتطلب الأمر ضربات متعددة لاختراق الملاجئ المحصنة، وطلعات جوية متوالية، بمصاحبة طائرات تزويد بالوقود جوًا. ومن شأن عمل تلك الطائرات والطواقم أوقات أطول فى الأجواء الإيرانية، أن يزيد احتمالات وقوع أخطاء، أو تعريضها للصواريخ والمُسيّرات الإيرانية المضادة للطائرات. وحدها الولايات المتحدة، التى تمتلك القدرة العسكرية الكاملة على توجيه ضربة موجعة للبنية التحتية النووية الإيرانية، باستخدام قنابل خارقة للتحصينات، من طراز «جى بى يو-57»، زنة30 ألف رطل، التى تطلقها قاذفات «بى-2»، الأمريكية، وهى الإمكانات المتوافرة حاليا بقاعدة دييجو جارسيا بالمحيط الهندى.
لا يعنى توفر تلك القوة النيرانية ذات القدرة التدميرية الهائلة، بالضرورة، أن أى عمل عسكرى أمريكى - إسرائيلى، ضد البرنامج النووى الإيرانى، سيبلغ مراده. ذلك أنه قد يفضى إلى تعطيل تطور ذلك البرنامج، عبر إطالة »زمن الاختراق«، أو المدة التى يستغرقها إنتاج مواد انشطارية بكميات تكفى لإنتاج قنبلة نووية، وتتراوح حاليا ما بين أيام أو أسابيع، ليغدو عاما أو عامين. لكنه فى المقابل، لن يفلح فى تقويض المعرفة الإيرانية المتقدمة فى تخصيب اليورانيوم، بقدر ما سيدفع طهران لتبنى النموذج الكورى الشمالى لعام 2006 بحيث تطرد المفتشين النوويين الأمميين، تتخارج من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لعام 1968، وتسرع مساعى إنتاج السلاح النووى. هذا، ناهيك عن وطأة الرد الإيرانى المتوقع، فقد تقدم طهران على استهداف إسرائيل بآلاف الصواريخ الباليستية والجوالة، والمسيرات، على نحو غير انتقائى؛ بحيث تطال مواقع عسكرية واستراتيجية، وأعيان مدنية مأهولة بالسكان.
وبينما لا تمتلك إسرائيل ما يكفى من الصواريخ لاعتراض ذلك الرد، تتخطى كلفة الدفاع الإسرائيلى ضد هجوم صاروخى إيرانى، كمثل ذلك الذى جرى العام الماضى، مليارى دولار، فى الليلة الواحدة.
رغم التوافق الأمريكى - الإسرائيلى بشأن عدم السماح لإيران بامتلاك السلاح النووى، تتباين الرؤى حول الآليات. فبينما يوقن، نتنياهو، فى ضرورة الضربة العسكرية الإجهاضية ضد المنشآت النووية الإيرانية؛ يعتقد ترامب أن الحل الدبلوماسى، عبر تحصيل اتفاق جيد، سيلبى الاحتياجات الأمنية لإسرائيل؛ لذا، لم يتورع عن التبشير بقرب التوصل إلى ذلك الاتفاق، محذرا، نتنياهو، من شن هجوم على إيران، حتى لا يزيد التوتر فى المنطقة، ويفشل المفاوضات. ويدرك ترامب أن أية مغامرة إسرائيلية عسكرية منفردة ضد إيران، قد تكون محاولة لاستدراج واشنطن إلى حرب، ليست ضمن أولوياتها حاليا. لكنها إن أضحت ملحة، فيجب أن تتم وفق رؤية استراتيجية أمريكية، وليس استجابة لحسابات أو ضغوط إسرائيلية.
لذا، أمر ترامب البنتاجون والجيش الأمريكى بوقف التنسيق مع إسرائيل بشأن خطة الهجوم المشترك على المنشآت النووية الإيرانية، كما أقال مستشاره السابق للأمن القومى، مايكل والتز، بجريرة تنسيقه المنفرد مع، نتنياهو، بهذا الخصوص.
بموازاة مواصلة سياسة «الضغوط القصوى» عليها، لم يستبعد ترامب الخيار العسكرى ضد إيران، نهائيا. حيث هدد باللجوء إليه، حالة فشل المسار التفاوضى فى إدراك اتفاق يحرمها، للأبد، من امتلاك السلاح النووي.
ولا يتورع ترامب عن توظيف أى تهديدات بضرب إيران، لتكثيف الضغوط عليها خلال المفاوضات النووية الجارية. وعقب صدور تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن إيران، مؤخرا، أعلن اعتزام واشنطن، صوغ مشروع قرار يُدين انتهاكها التزاماتها المتعلقة بالضمانات. وللمرة الأولى منذ عقدين، تنتوى واشنطن، بالتعاون مع الترويكا الأوروبية، الضغط على مجلس محافظى الوكالة، أثناء اجتماعه الفصلى هذا الشهر، لإقرار وشجب عدم امتثال إيران لالتزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووى.
ربما يكون الحديث عن تعليق التنسيق - الأمريكى الإسرائيلى بشأن استهداف المنشآت النووية الإيرانية، تكتيكا متعمدا لتحجيم الرد الإيرانى إزاء أى هجوم إسرائيلى محسوب؛ مع تجنيب المصالح الأمريكية بالمنطقة أى توتر عسكرى، محتمل؛ تصر طهران على تحميل واشنطن مسئولية اندلاعه، بغض النظر عن مُشعله. حيث يبتغى رجل الصفقات الأمريكى مغانم اقتصادية مغرية، تضمنتها مبادرة طهران بالعروج بالعلاقة مع واشنطن من العداء إلى التعاون الاقتصادى، ودعوتها إياها لتنهل من استثمارات فى إيران بقيمة تريليون دولار، تشمل برنامجها النووى السلمى، واحتياطاتها الضخمة من النفط والغاز. كذلك، تتملك ترامب رغبة ملحة فى كبح جماح التقارب الاستراتيجى، المتسارع والمقلق، بين طهران وكل من بكين وموسكو، والذى تكلل بتوقيع معاهدتى شراكة استراتيجية بين إيران وكل منهما أعوام 2021 و 2025 ورغم إصرارهما على حرمان إيران من امتلاك السلاح النووى، لا تبدو واشنطن وتل أبيب مستعدتين لتحمل عواقب تفكيك الدولة الإيرانية أو انهيار نظامها.
وبناء عليه، لا يستبعد خبراء إسرائيليون أن يأتى إصرار نتنياهو، على عمل عسكرى وشيك ضد طهران، ضمن استراتيجية الضغط على المفاوض الإيرانى. فضلا عن ابتزاز واشنطن استراتيجيا، وتحفيزها، لإبرام اتفاق يلبى الشروط الإسرائيلية، ويمنع إيران من انتزاع عضوية النادى النووى.