تحت صدمة الهزيمة العسكرية استنفرت مصر أفضل ما فيها، وولد جيل جديد فى ميادين القتال والجامعات الغاضبة.
على مدى ست سنوات كاملة بين يونيو (١٩٦٧) وأكتوبر (١٩٧٣) قاتلت وتحملت، غضبت وضحت، راجعت وصححت الأسباب التى أفضت إلى الهزيمة.
فى تلك السنوات تبدت روح جديدة تتحدى اليأس بعزيمة الرجال وتوفر للنصر الممكن مقوماته الضرورية.
أسوأ ما جرى بعد أن سكتت المدافع أن من أهدروا بطولة السلاح هم أكثر من تحدثوا عن «روح أكتوبر».
شىء من الابتذال السياسى تردد على نطاق واسع فى أسئلة مكرورة: أين روح أكتوبر، وجيل أكتوبر، وأدب أكتوبر، وسينما أكتوبر؟
كأن الروح تستعاد بالدعايات وما يلهم يصدر بالتعليمات.
أى نظرة جدية على تجربة الحرب فى الأعمال الأدبية والفنية التى لها قيمة، تكتشف ببساطة قوة الرهان على النصر الممكن قبل العمليات العسكرية وعمق الإحباط من نتائجها السياسية والاجتماعية، فالجوائز ذهبت إلى القطط السمان ولصوص الانفتاح، لا للذين عبروا الجسور فوق أخطر مانع مائى فى التاريخ بأى حروب سابقة.
عندما رفض المصريون العاديون الهزيمة وعرضوا المقاومة لاستعادة سيناء المحتلة بقوة السلاح تبدت روح غاضبة فى الجامعات المصرية تطالب بإعادة محاكمة القادة العسكريين المسئولين عن الهزيمة، والتدريب على السلاح وتعبئة الجبهة الداخلية وضبط مستويات أدائها بما يتسق مع التضحيات على جبهة القتال، وفوق ذلك كله المشاركة السياسية فى صناعة القرار.
بذات الوقت قال «جمال عبدالناصر»: «إذا تصادمت الثورة مع شبابها، فإن الثورة تكون على خطأ»، حقق فى تجاوزات المخابرات العامة، وأدان ما أسماه «الدولة داخل الدولة» و«مراكز القوى»، ودعا إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات ودولة القانون، ودخل حوارا مفتوحا مع الجيل الجديد، وكان ذلك ضروريا لفتح صفحة جديدة تكون مصر بمقتضاها قادرة على تحمل مسئولية صدام السلاح على جبهات القتال.
كانت الأولوية القصوى لإعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر على أسس احترافية وحديثة، ومراجعة بنية النظام السياسى التى سمحت للهزيمة بأن تأخذ هذا الحجم المروع.
إذا أراد أحد أن يتحدث عن «روح أكتوبر» فإنها لم تولد من فراغ، ولا كانت تهويما فى خيال شارد.
بقدر عمق الهزيمة تولدت إرادة القتال وضرورات التصحيح.
وبقدر تزييف الوعى بعد النصر العسكرى أهدر كل معنى استدعى القتال من أجله.
لا توجد لحظة فى التاريخ تحلق فى الفضاء بلا مقدمات تفضى إليها.
فى اليوم التالى لرفض الهزيمة كلف «جمال عبدالناصر» الفريق «محمد فوزى» قائدا عاما ووزيرا للحربية، والفريق «عبدالمنعم رياض» رئيسا للأركان.
كان دور الأول إعادة الانضباط للقوات المسلحة بعد لم أشلائها التى تبعثرت فى صحراء سيناء، ورفع روحها المعنوية إثر الهزيمة الثقيلة.
وكان دور الثانى إعداد خطط القتال للمواجهة المحتمة، وقد استشهد يوم (٩) مارس (١٩٦٩) على جبهة القتال الأمامية وخرجت مئات الآلاف فى جنازته تبكى رجلا لا تعرف كثيرا عنه وتهتف لمعنى أكبر منه، أن الحرب مستمرة.
هذه واحدة من وقفات روح القتال، وروح التضحية، وروح النصر الممكن، التى وصفت فيما بعد بـ«روح أكتوبر» التى أجهضت قبل أن تستكمل قوة زخمها.
كانت مهمة «فوزى» و«رياض» شبه مستحيلة بالنظر إلى حجم التحديات والمخاطر، غير أن إرادة القتال أزاحت بأسرع من أى توقع كل سبب لليأس.
بعد أسبوع واحد من توليهما المسئولية واجهت قوة مصرية محدودة اختراقا إسرائيليا عند «رأس العش».
لم يكن لدى مصر ما تملكه سوى إرادتها، أن تقاتل حتى النهاية أيا كانت الظروف والتضحيات.
أرجو ألا ننسى أن أحدا لا يقاتل بلا قضية تستحق التضحية من أجلها، وأى كلام آخر ادعاء فاضح على الحقيقة.
فى الادعاء إزهاق لأى روح وتبديد لكل معنى.
عندما يستنفر شعب ما طاقاته وموارده فإن القدرة على التصحيح الذاتى ترتفع معدلاتها والعناية بأدق التفاصيل تأخذ مداها.
جرت تحقيقات موسعة وسجلت شهادات معمقة والإحاطة فى الوقت نفسه بكل ما قاله القادة الإسرائيليون فى ذروة انتصارهم بحثا عن أخطائنا بعيونهم وثغراتهم بنص كلامهم.
وفق تعبير الفريق «عبدالمنعم رياض» أثناء جلسات الاستماع والتحليل، بحضور «جمال عبدالناصر»: «يا سيادة الرئيس سوف ننتصر عليهم، والثغرة الكبيرة التى سوف ننفذ منها غرورهم القاتل».
بثقة فى النفس، تزايدت يوما بعد آخر، أعيد بناء الجيش، وفق أحدث المعدات العسكرية السوفيتية، اعتمادا على خريجى الجامعات المصرية، وبدت التدريبات العسكرية على درجة جدية لا سبيل للتهاون فيها، فلا روح قتالية مع أدنى إهمال.
الجدية من شروطها أن تكون هناك قضية تلهم.
عندما تفقد قضيتك إلهامها فلا تتحدث عن أى روح.
ما يلهم هو ما يستدعى البطولات، وبعضها كان خارقا وأسطوريا بأى معنى إنسانى.
المواطن المصرى العادى هو البطل الأول فى تلك الحرب، رفض التسليم بالهزيمة ودفع فواتير النصر، ثم لم يحصد شيئا فى النهاية.
يكفى كمثال واحد، صارخ ومأساوى، أن «عبدالعاطى»، الذى اشتهر بـ«صائد الدبابات» وأوقف وحده رتلا من الدبابات الإسرائيلية، واصطادها واحدة إثر أخرى، لم يجد فى نهاية حياته أى رعاية صحية يستحقها، كما لم يُدع تقريبا لاحتفالات ذكرى حرب أكتوبر التى تلخصت مرة فى «بطل الحرب والسلام ــ أنور السادات»، ومرة أخرى فى «صاحب الضربة الجوية الأولى ــ حسنى مبارك».
عندما عاد المقاتلون من خطوط النار وجدوا أنفسهم فريسة سياسات اجتماعية غير تلك التى راهنوا عليها لحياة كريمة فى وطن حر، وتوجهات استراتيجية فرغت القضية كلها من أى محتوى، وضعت مصر تحت قيود «كامب ديفيد»، فـ(٩٩٪) من أوراق اللعبة باتت فى يد الولايات المتحدة ــ بتعبير الرئيس الراحل «أنور السادات».
فى لحظة النصر اغتيلت روحه، وكانت تلك مأساة كاملة.
لأسباب سياسية تتعلق بشرعية الرئاسات همشت ذكرى المشير «أحمد إسماعيل على»، كأنه لم يكن قائدا عاما للجيش، وألغى ذكر الفريق «سعد الدين الشاذلى» رئيس الأركان وجرى التنكيل به على نحو فادح، حتى يكون هناك بطل واحد للنصر.
إنكار الأدوار شمل المشير «عبدالغنى الجمسى» رئيس العمليات، والفريق «محمد على فهمى» قائد الدفاع الجوى، والقادة العسكريين الآخرين. وبينهم من قاربت سيرته الأساطير بين ضباطه وجنوده مثل الشهيد «إبراهيم الرفاعى».
روح أكتوبر كانت تعنى بالضبط عند كل مقاتل ومواطن كامل اقتناعه بأنه يضحى أو يستشهد من أجل حق وطنه فى صناعة مستقبله، وأن تصب عوائد الدم لصالح الذين دفعوا فواتيره فى صمت.
إذا كان هناك من هو جاد فى استعادة روح أكتوبر، روح التفانى فى التدريبات والتضحية فى القتال وتوفير كل أسباب النصر الممكن، فإنه لا بد من الإفراج ــ أولا ــ عن كل وثائق الحرب بعد ثلاثة وأربعين سنة، حتى نعرف لماذا وكيف كان أكتوبر ممكنا، ولماذا وكيف اغتيلت روحه؟
كما لا بد من الإنصاف ــ ثانيا ــ لكل أبطالها وقادتها دون خزعبلات تلخصها فى رجل أو اثنين.
الأهم من ذلك كله رد اعتبار بطلها الحقيقى ــ المواطن المصرى العادى.