ضرائب التغيير ومكافحة الفساد - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضرائب التغيير ومكافحة الفساد

نشر فى : الإثنين 10 فبراير 2020 - 10:25 م | آخر تحديث : الإثنين 10 فبراير 2020 - 10:25 م

لسنوات طوال علمنا أن التغيير له ثمن كبير يدفعه الإصلاحيون والثوريون طائعين، لمجرد أن يروا ثماره دانية القطوف لمصلحة الوطن والمواطن. الثمن كان يتم تلخيصه فى كلمتين «مقاومة التغيير» المقاومة تأتى عادة من أصحاب المصالح فى التكلّس والجمود والموات الذى يضرب بجذوره فى المؤسسات القديمة، ودولاب العمل الروتينى العقيم. تلك المقاومة تهون تداعياتها إذا كان المصلحون يتمتعون بدعم واسع من الجمهور الواعى، ومن الدولة متمثلة فى جهاتها المختلفة المعنية بمقاومة الفساد بشتى صوره.
قديما قال أحد حكماء دولة عجوز: «لا تحرك حجرا من مكانه إذا علمت أنه قد يسقط على قدميك»! فلسفة مخيفة ما إن تعمل بها حتى تجد نفسك كأبى العلاء المعرّى رهين المحبسين، محبس الفساد والجمود، ومحبس مخاوف لا حصر لها من أشكال متطورة لمقاومة التغيير، ربما لا تجد لك فيها نصيرا من أى مكان. تحريك المياه الراكدة ليس بالعملية السهلة ومعركتنا ضد الفساد والهدر هى أخطر المعارك الحاسمة لمستقبل مصر التى نراها بعيون حالمة، ويراها فى مقدمة الصفوف قيادة جادة لا تتهاون أبدا مع أى صورة من صور الفساد والإهمال. الأزمة تكمن فى إقبال كثير من الشرفاء على تقديم خدمة مجانية للفاسدين دون قصد، وذلك بغض الطرف عن أوضاع كارثية فى إدارة العديد من ملفات الاقتصاد الحيوية، تراكمت خطاياها عبر عقود دون مساءلة تذكر. تلك الأوضاع التى تحمل فى طياتها مليارات من الجنيهات المهدرة فى هيئة فرص ضائعة نسميها معشر الاقتصاديين تكلفة الفرصة البديلة opportunity cost فضلا عن مليارات أخرى تضيع بالسلب والنهب والتبديد، وتلك تتصدى لها يد الدولة فى القليل الذى تتمكن من رصده، بعدما تحولت بعض جماعات الفساد إلى مؤسسات شديدة التعقيد. لا تقف جناية الشرفاء المذكورين أعلاه عند هذا الحد، لكنهم يشاركون قوى الفساد المناوئة للتغيير ــ دون قصد أيضا ــ فى التربّص بأصحاب الهمم العازمين على حمل الأحجار وتحريكها دون اعتبار لسقوطها على أقدامهم.
***
من هؤلاء من لا يتوقف عن تخويف أصحاب الهمم من مصير المصلحين فى مؤسسات وجهات تمكّن منها الفساد! ولهذا أثر نفسى شديد السلبية، ويخالف تعاليم الدين والأخلاق، من حتمية الحض على المعروف والأمر به والنهى عن المنكر مهما كان الثمن. ومنهم من يرصد بحرص وشغف محاولات الإصلاح الشفافة البادية للعيان (كونها أسهل للرصد والنقد والتحليل) ويقيّمها بميزان شديد القسوة بمعزل عن سياق الفساد القديم، وكأن صاحبنا الذى هم بتحريك الحجر الجاثم على صدر الوطن هو الذى وضعه فى هذا المكان، وهو الذى أجرم بزحزحته كون الجسد القابع تحت الحجر لم يكن يشعر به حتى تحرّك عن موضعه!. المقلق فى هذا المسلك أن تخويف صاحبنا حكيم الدولة العجوز يصبح فى محله، فتنشأ منظومة مختلة للثواب والعقاب، ويصبح جزاء الإحسان غير الإحسان، وتتراجع همم المصلحين، وتخفت عزائمهم فى مواجهة تيار جارف من مقاومة التغيير من قلب المجتمع المستفيد الأكبر من هدم معابد الفساد وتنكيس ألويته.
تحدثت فى هذا الموضع من قبل عن مخاطر أخلاقية تنشأ عن تعارض المصالح بين الوزراء العازمين على التغيير، والحرس القديم المتمترس بحصون الفساد فى مؤسسات أحوج إلى الإصلاح الفورى، وكان حديث الساعة حينها استقالة وزير النقل السابق استشعارا للمسئولية عن حادث قطار مؤسف، نتج عن أخطاء بشرية اقترفها متضررون من قرارات الوزير الراديكالية، ورؤيته للإصلاح. خشينا حينها من مخاطر قيام المتضررين من قرارات الإصلاح بمحاربة أى وزير يأتى، عبر ارتكاب أخطاء بشرية متعمّدة لإسقاط الوزير ومعه محاولاته الإصلاحية. تساءلنا ــ دون أن نبرئ الوزير أو نتهمه ودون أدنى معرفة شخصية به ــ عن مصير أى مسئول يأتى بروشتة إصلاح تتعارض بالضرورة مع مصالح المفسدين، وكيف نتجنّب مكافأة هؤلاء الفاسدين بإزاحة كل من طوّعت له نفسه الإقدام على تغيير منظومة قديمة بالية أقل ما توصف بها أنها منعدمة الكفاءة.
لحسن الطالع تدرك القيادة السياسية تغلغل الفساد فى كثير من جنبات الوطن، وتعلم أن الحرب ضد العناصر الإصلاحية لن تكون سهلة، وأن استنزاف أصحاب الهمم فى معارك فرعية تعاف معها أنفسهم المناصب والمسئولية هو من المخاطر المحتملة، التى يجب أن تعمل جميع الأجهزة على التعامل معها بحكمة وحرص شديدين. لا يعنى هذا حصول أى مسئول على حصانة من المساءلة، لمجرد أنه يحمل شعار الإصلاح والتغيير. فقط يجب أن تمتد أعين النقد والتحليل إلى جذور الظاهرة، وليس سطحها الرقيق الذى انكشف بفعل مقاومة العطب. لايزال الإنسان يحكم على الأشياء بقشورها وظاهرها، حتى يقع ضحية للتسرّع فى إصدار الأحكام وهو من أسوأ عيوب التفكير.
العجيب أن الكثير من مواطن الهدر بالمليارات لم يلتفت إليها بينما تنزف دما وقيحا، ولم تدركها بعض الأبصار إلا بعد أن شرع الأطباء فى وقف النزيف. وأعجب من هذا أن مصير الأطباء لم يختلف عن مصير الأب الشجاع الذى أوشك أن يلقى بنفسه تحت عجلات القطار لنجدة ابنته من الموت، فتم تغريمه لإقدامه على مخالفة إدارية بهذا الفعل! والعهدة فى ذلك على الموقع الناقل للخبر.
***
المؤكد أن الفساد المؤسس على أنماط ثابتة وأعراف راسخة، والمحصّن بتشريعات وقواعد صادرة فى غفلة من المجتمع عبر تاريخ طويل من العبث الإدارى والتشريعى، ما يمكن أن نطلق عليه الفساد النظامى systemic corruption لن يتغير إلا بكسر الكثير من القواعد، ريثما يتم تغييرها تباعا عبر القنوات المعنية بذلك. هنا يجب توعية المسئولين جيدا قبل الإقدام على مخالفة القانون بحسن نية، وتقديم هدية لأقطاب الفساد المؤسسى تساعدهم على النيل من هذا المسئول أو ذاك. تحصين الموظف العام «حسن النية« كان ولم يزل من الموضوعات المطروحة على ساحة الحوار المجتمعى، والتى تناولتها أقلام الإعلام مؤخرا كأحد مطالب المستثمرين ورجال الأعمال على طاولة السيد رئيس الوزراء، بغرض التخلّص من ظاهرة الأيدى المرتعشة فى المصالح الحكومية. هذا الموضوع يجب التعامل معه بحرص نظرا لأنه قد يحمل غطاءً للفساد إذا ما أسىء تنظيمه. يرصد الباحثان «لورينا ألكازار» و«راؤول أندراد» فى الفصل الخامس من كتاب «تشخيص الفساد.. الاحتيال فى المستشفيات العامة بأمريكا اللاتينية» الصادر عام 2001 العوامل التى تشجّع على انتشار الفساد النظامى ويحصرانها فيما يلى: تعارض المصالح، السلطات المطلقة، احتكار السلطة، نقص الشفافية، انخفاض الدخول، انتشار ثقافة الأمن من العقاب. وهى عوامل واسعة الانتشار فى دول العالم الثالث بلا استثناء يذكر.
فى الختام، يجب أن تتحرّك الآلة التشريعية مواكبة لفكر التحرر من قيود بالية وفّرت بيئة خصبة لنمو الفساد وانتشاره، وهو أمر لا يمكن أن ينكره أحد. كثير من التشريعات وضعت لإحكام الرقابة ومنع التلاعبات فى ظاهرها، لكنها شكّلت عقبة أمام المستثمر الجاد والمتعامل النظيف اللذين لا أمل لهما فى تحقيق الأرباح إلى باتباع القوانين، بينما يجد الفاسد دائما بدائل للتحايل على القانون، ويجد الفاشل مكانا سهلا فى غيبة منافسة المؤهلين الذين عجزوا عن الاستمرار فى ظل غابة تشريعية معوّقة وقاتلة للإبداع.
كذلك يجب أن تظل المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد محققة للعدالة الشاملة، واعية لتكلفة مقاومة الإصلاح وضريبتها، شاهدة على أعماق الفساد ومنبته، مواكبة لأهداف ورؤية مصر للتنمية المستدامة، مع ضرورة وضع مصفوفة للأولويات تراعى الموارد المحدودة لمكافحة الفساد (سواءً البشرية أو المادية)، والمصادر المتعددة لتخريب الاقتصاد وتخريب المواطن الذى هو قوام العملية التنموية والمستهدف بها، وتصبح الأولوية الأولى للتعامل مع أسباب الفساد والهدر الأكثر ضررا فالأقل. وهو مجهود يحتاج إلى دراسة وتحليل قبل الشروع فى النزول إلى الميدان، والحمد لله أن مؤسساتنا المعنية تملك الكفاءات القادرة على الرصد والتحليل وتحديد الأولويات.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات