الغموض - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
السبت 25 مايو 2024 1:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الغموض

نشر فى : الأحد 12 أبريل 2009 - 5:58 م | آخر تحديث : الأحد 12 أبريل 2009 - 5:58 م

 الغموض صفة تطلق على النص الأدبى الذى يصعب تفهم معناه، وهو خاصية مشتركة بين الشعر القديم والجديد، وإن اختلفت طبيعته فيهما.

فقد فرق وليم إمبسون فى كتابه «سبعة أنماط من الإبهام» بين الغموض obscurity وبين الإبهام ambiguity، فالإبهام عنده يكون نحويا بصفة أساسية أى يرتبط بتركيب الجملة، فى حين أن الغموض صفة خيالية تنشأ قبل مرحلة التعبير المنطقية، أى قبل مرحلة الصياغة اللغوية.

ووفقا لتصنيف إمبسون فإن صعوبة الفهم فى الشعر القديم تنشأ غالبا من الإبهام، بينما تعتمد فى معظم حالات الشعر الحديث على الغموض.

لهذا فإن النقاد القدماء رأوا فى الكثير من هذا الغموض عائقا عن الفهم والإبانة حتى إن أبا هلال العسكرى سوّى بينه وبين الإغلاق والتقعير، وهو يدخل لديهم فى دائرة التعقيد الذى تفننوا فى دراسته بأبواب الغرابة والمعاظلة والاستخدام المجازى غير المألوف.

أما النقاد المحدثون مثل هربرت ريد فيرون أن الغموض فى الشعر لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد صفة سلبية، أى على أنه إخفاق من الشاعر فى الوصول إلى حالة الوضوح التام إنما هو صفة إيجابية، بل أكثر من هذا هو مجموعة كاملة من الصفات الإيجابية. ويضيف بول فاليرى أن الغموض ولا معقولية المعنى طريق لا مفر منه للشاعر إذا أراد أن يحمل اللغة على أن تقول ما لا يمكن أن تقوله أبدا بالطرق العادية.

ويمكننا أن نرى نموذجا لغموض الشعر القديم متمثلا فى البيت الآتى:

وما مثله فى الناس إلا مملَّكا أبو أمِّه حىٌّ أبوه يقاربه

وترتيب البيت هو «وما مثله فى الناس حى يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه»، والبيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها إبراهيم بن إسماعيل بن هشام المخزومى، وهو خال ــ أبو أمه أبوه ــ عبدالملك بن مروان، ومعنى البيت أن إبراهيم لا يشبهه أحد من الأحياء إلا ابن أخته هشام، وإذا وجد من يشبهه فلابد أن يكون ملكا كهشام.

إن هذا النوع من الإبهام ينحل بلا رجعة إلى معنى مباشر بسيط بعد تفسير البيت، وهو يختلف تماما عن غموض الشعر الحديث الذى نضرب مثلا له بقصيدة الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى «تقاطعات» ونصها الكامل هو:

وتكون أمسيةٌُ
مطرٌُ
كخيط الغزل يقطعنى، وأقطعُهُ
وشوارعٌُ تنصبُّ فى جسدى
وأعبرها!
ويكون ضوءٌُ يلعب البلَلُ الصقيل بهِ
يفرِّقهُ ويجمعهُ
ويكونُ نهرٌُ يقتفى أثرى
وريحٌْ مثقلٌُ بالغيم والأصداء يدفعنى، وأدفعُهُ
ويكون أنِّى حين ألقاهُ.. أُضيِّعُهُ

إن محاولة شرح نص كهذا فى لغة نثرية تهدر قيمته إهدارا تاما، لأنه يستمد روحه من التدفق الحيوى لصوره الشعرية ذاتها التى تتوالى مشحونة بالإيقاع فى دفقة شعورية واحدة، وأفضل طريقة لاستيعاب نص كهذا هى أن تقرأه ثانية وثالثة لتستمتع به وأنت تحاول إدراك غموضه الفنى. ومع هذا فإنه من الممكن نظريا لفت النظر إلى سيل المعوقات التى اعترضت الشاعر محاولا الفكاك منها فى هذه المقطوعة الصغيرة، والتى تبدأ بالليل الأسود، ثم المطر، ثم المحاصرة فى شرنقة الغزل ومحاولة الفكاك منها، ثم الإغراق، ثم ظهور الموانع المائية ومحاولة عبورها، ثم تشتيت الرؤية عبر تراقص الضوء على صفحة الماء المصقول، ثم المطاردة بعد أن تجمع الماء فى نهر يقتفى أثر الشاعر، ثم الرياح التى تُحس والغيم الذى يُرى والأصداء المدوية للرعد الذى يُسمع، ثم المدافعة المتبادلة بين الشاعر وذلك الخطر الذى هاجم حواسه كلها، ثم تأتى المفارقة الفنية المدهشة التى تتوج المقطوعة فى سطرها الأخير: «ويكون أنى حين ألقاه.. أُضيِّعه!»، وهى مفارقة مؤسسة مبدئيا على التقابل المعنوى العام ــ وليس اللفظى المعجمى ــ بين اللقاء والإضاعة، ولا تنتج هذه المفارقة دلالتها الحقيقية إلا بالتفاعل الكامل والعميق مع باقى صور النص، ليستنتج القارئ على المستوى الدلالى أن هذا الذى يلقاه الشاعر ويضيعه فى لحظات عمره الحاسمة هو طوق النجاة الذى يعجز فى الوقت نفسه عن حصره فى الحب أو الوطن أو الصديق أو غيرهم، ليظل للنص تأثيره الساحر وقدرته الخلابة على تفجير المعانى المتعددة. أما على المستوى اللغوى فيظل الضمير المتصل فى كلمتى (ألقاه.. أُضيِّعُهُ) بلا عائد لفظى يسبقه رغم أنف النحويين، وإن كان هو الرابط المعنوى الذى يجمع أشتات النص ويفجر عبر التقابل فكرة الإشارة إلى طوق النجاة فى ذهن المتلقى.

وأذكر أننى فى أمسية شعرية خاصة سألت الشاعر عن هذا الشىء الغامض الذى يشير إليه الضمير بالمقطع السابق، فضحك ضحكة طفولية شقية وقال فى صدق بالغ: ما عرفش.

فالغموض الذى تعانى منه الأشياء فى الشعر الحديث على حد تعبير جون كوين ليس غموضا مبعثه الخاصة الاحتمالية الناتجة من عدم معرفة الظروف ومن ثم يمكن إزالته بمعرفتها ــ مثل بيت الفرزدق ــ ولكنه غموض فى ذاته تقتضى طبيعته ألا يُعرف من أحد ــ حتى الشاعر ــ، وألا يعرف إلى الأبد.

التعليقات