مَشْروع ذُرة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مَشْروع ذُرة

نشر فى : السبت 12 سبتمبر 2020 - 12:35 ص | آخر تحديث : السبت 12 سبتمبر 2020 - 12:35 ص

على ناصيةِ الشارع، ابتسم الولدُ الأسمر في سترته الفوسفورية، واقترب حاملًا خرقةً داكنة اللون لكثرة ما علقَ بها مِن أقذار؛ مُتطلّعًا إلى مُوافقةٍ ضِمنية تخوّله مَسحَ زجاجِ السيارة.
***
الولدُ في السابعة عشر على أقصى تقديرٍ، ملابسُه رثَّة، لا يبدو خبيرًا في المِهنة، بل يؤدي دورَ السائِس على استحياء. يتحرَّك مُترددًا، تنقص مسلكَه الحنكةُ، ولا يملك المَهارات والقُدرات التي يتمتَّع بها منادو السياراتِ المُحترفون؛ إذ يستخرجون مِن زبائِنهم الجنيهات التي يُريدونها، بغضّ النظرِ عن العمل الذي قاموا به.
***
كثيرًا ما تَرَكت السيارةَ في مكانٍ مُناسب، ثم عُدت بعد قضاءِ حوائجي، أدرت المُحَرك وهمَمت بالانطلاق؛ فإذا بالأرض تنشَقُّ عن سائسٍ يَمدُّ يدَه مُنتظرًا الأُجرةَ. لا إشارةً ولا إرشادًا ولا أثرَ لفعلٍ أو جهدٍ بذلَه واستحقَّ عليه مُقابِل، لكنّه يُصر وإصراره يتزايد، والخطوة التالية التي كثيرًا ما شهدتها في شوارعِ المَحروسةِ؛ أن ينقلبَ المَوقِفَ إلى مَعركةٍ، وأن يُهدّد السائسُ بما لا تُحمَد عُقباه؛ فالزبون سيأتي حتمًا مرةً ثانيةً، والسيارةُ ستقفُ في مكانٍ ما، والعجلاتُ الأربع قد تتعرض صُدفةً إلى مكروه، أو تنالُ مِن الطلاءِ خُدوش.
***
على كلّ حال، لم يكُن الولدُ مِن جماعةِ المُنادين هذي بكُلّ تأكيد؛ لكنَّ وَجهَه بدا مألوفًا في ذاكرتي. سألتُ إن رأيتَه مِن قَبل وقد تَصوَّرت أنه هو نفسُه الولد الذي يقفُ بكيزان الذُرة في المَساء، لكنّه نفى ونبَّهني في خَجلٍ إلى أنه حاولَ منذ أيامٍ قليلةٍ مُساعدتي في الخروج مِن وَراء سيارةٍ تركها صاحبُها مُوصدةً وأغلقَ عليّ الطريق. راجعته لأتأكد: يعني أنت مش بتبيع بالليل ذرة؟ لمعت عيناه واكتسبَ صوتُه حيويةً لم تكُن فيه وقال: يا ريت ولا كنت لفيت على العربيات لو معايا أعمل مشروع زي ده.
***
كدت أضحك بعفويّةٍ مِن الرَّد؛ فعربةٌ خشبيَّةٌ تسير دفعًا على عجلَتين، أو فرشةٌ بسيطةٌ رابضةٌ على الأرض، وقطعُ فَحمٍ مُستقِرَّة على السطح، تنضُج بإشعالها الذرة؛ غَدَت مَشروعًا مُهمًا ومُجزيًا؛ يستدعي الحماسةَ ويستثير الشُّجون. قبل أن تخرجَ الضحكةُ مِن فَمي؛ ابتلعتُها ونَهَرت نفسي، فهذا المَشروع هو مُفردات حُلمٍ بعيد، يصبو إليه ولدٌ يَجِدُ طعامَه بصُعوبة، ولا يرى في مُستقبله سوى البؤس والركود. لم يكُن الولدُ يمزح أو يسخر مِن حالِه، بل لوَّنت قسماتُه الجِديَّة وظهرت في كلامِه نبرةُ شغفٍ وتمنّي؛ فبيع الذرةِ يجلِبُ إليه الناسَ، ولا يضطره إلى مُلاحقتِهم والتوسّل إليهم. العادةُ أن نستقبل ما حولنا تبعًا لما نحن عليه؛ أشياءٌ كثيرة تلوح ضخمةً مُبهِرةً في عين مَن لا يأمن قُوتَ يومِه، عاديةً عند مَن يَملك حَدَّ السَّتر، تافهةً ضئيلةً عند مَن يُنفق بلا حسابٍ أو خوف.
***
الولدُ مثله مثل آلاف غيره لا مِهنة حقيقية له، ولا مَوطِن قوة يستثمره، والحلّ التلقائيّ كي يستمر في حياته أن يستجديها.
***
على كل حال، تضاعف عددُ المُنادين في الآونة الأخيرة، واحتلوا شوارعَ ومناطقَ لم يكُن لهم فيها نفوذٌ مِن قبل. تواكب انتشارُهم مع مَنع السيارات مِن الوُقوف في أماكِن عدة، وحُضور الونش الذي كان نادرًا ما يظهر حتى وإن دَعت إليه الحاجةُ، وكذلك مع تدهُور الأحوال الاقتصاديةِ ولجوءِ جماعاتٍ مُتباينة مِن الناسِ إلى أعمالٍ لم تكُن في الحُسبان، يمارسونها كيفما تيسر، أحيانًا ما يبرز بينهم الماهر، أما كثيرهم فيتصرَّف بعشوائية، وقد حار السائقون ما بين هجماتِ الونش ومطاردات السائسِ، وقلَّةِ أماكن الانتظار وغيابِ الجراجات مِن الأسواق المعروفة بكثافة مُرتاديها.
***
منذ فترة قصيرة؛ اتجَهت إلى مَتجر لبيع الأجهزة الكهربائية، درت حوله دون أن أعثر على فراغ يسعُ سيارتي، ومع كلّ دورةٍ كنت ألمح الونش يقفُ مُتحفزًا لاصطياد المُخالفين. غادرت وعُدت في اليوم التالي لأمر بالخطواتِ ذاتها؛ وأخيرًا وقفت بمُحاذاةِ الوِنش عمدًا، وبادرت قائده بالسؤال عن المَطلوب؛ فالشارع عريضٌ وسريعٌ والأمكنةُ المُتاحةُ كاملة العدد، والانتظار بمحاذاة الرَّصيف تجعلُ المساحةَ التي تستوعِب السياراتِ أضيقَ، والجِهةُ المُقابلة لا يُمكن العبور منها على الأقدامِ في عدم وجود إشارةِ مُشاه.
***
الحَقُّ أنه استمَعَ مُبتسِمًا ولم يَكتم ضحكتَه وهو يقول: المُنادي في الشارع الجانبي.. أي مكان صف تاني.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات