الغرق - داليا شمس - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 11:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الغرق

نشر فى : السبت 12 سبتمبر 2020 - 7:55 م | آخر تحديث : السبت 12 سبتمبر 2020 - 7:55 م

كلما رأيت صور الشباب في السودان وهم يحجزون مياه النيل بأجسادهم وعشرات الآلاف من المنازل التي دمرها الفيضان بعد أن وصل منسوب النهر إلى 17.57 متراً، وهو أعلى ارتفاع له منذ أن بدأت عمليات الرصد في 1902، تطاردني كلمات الكاتب السوداني حمور زيادة في روايته الأخيرة "الغرق" الصادرة عن دار نشر العين، والتي انتهيت من قراءتها قبل عدة أشهر.
علاقة الناس بالنهر، ورفض بعضهم أن يتركوا ممتلكاتهم مفضلين الغرق، ومحاولتهم درء الخطر من خلال أكياس الرمل والحصى، جعلوني استرجع بسرعة العنوان الفرعي للرواية "حكايات القهر والونس". هذه الثنائية موجودة بشدة في الواقع وفي العمل الأدبي، إذ يصف الكاتب كيف يحنو ويقسو النيل على أهل قرية "حجر نارتي" التي تدور فيها الأحداث، شمالي السودان، فهو نهر إذا فاض كثيرا قتل، وإذا أجدب كثيرا أهلك. "كرامة للنهر الآتي من الجنة، ترسل السماء هداياها للغرقى على اليابسة العطشى، المتورطين في هذه البلاد بحكم الميلاد. لم يختاروا أن يكونوا هنا، لكنهم نبتوا على ضفاف نهر الجنة. لم يحملهم الماء، لكنهم غرقى على شطه". شخصيات الرواية، مثل أهل بلادنا، غارقة في واقعها وظروفها، وهو ما جعل المؤلف يبدأ حكاياته بالغرق، حين يعثر سكان "حجر نارتي" على جثة طافية على سطح النيل لفتاة مجهولة الهوية، فيرسلون كعادتهم للقرى المجاورة حتى تأتي الوفود، ربما يتعرفوا على الضحية. يشرح أحد أبطال الراوية قواعد الغرق، قائلا: "جثة الرجل تطفو على ظهرها، ويكون وجهها إلى أعلى. لكن جثة المرأة، لأن طبعها الحياء، تطفو ووجهها إلى أسفل. (...) لقد رأيت مئات الغرقى. دائما المرأة وجهها إلى أسفل. ربنا يستر الحريم حتى في الموت".
***
النساء في الرواية أقوياء، لديهن جرأة، رغم التقاليد الصارمة والطبقية الطاغية، فهناك كما أشرنا ثنائية تحكم الرواية: رجال ونساء، أسياد وعبيد، عائلة الناير وعائلة البدري اللذان يتنافسان على العمودية، أتباع المهدي وأتباع الميرغني، الاحتلال الإنجليزي والسيادة المصرية، حكايات البشر والوطن.. خطوط متوازية تمتد من سبعينات القرن الفائت إلى الأربعينات والعشرينات أحيانا، من خلال سرد يتدفق كالنهر، دون حبكة تقليدية. ومن وقت لآخر يعود بنا الكاتب لفكرة الغرق وتذكرنا به فاطمة، أم سعاد الفتاة التي غيبها الموت منذ ثمانية وعشرين عاما، وفي كل مرة تطفو فيها جثة على سطح الماء تأتي وتنتظر. "يقولون إن بحر النيل إذا لفظ غريقا أتبعه اثنين من الغرقى القدامى الذين تمسك بهم سابقا.(...) أحيانا يُصدق بحر النيل ما يُقال. ويلفظ جثامين غارقة قديمة، نسيها أهلها ونسيها الموج في جوفه. وفاطمة تفحص ما يُفرج عنه النيل فلا تجد سعاد".
نعيش من خلال الرواية في قرية "حجر نارتي" حيث يعمل معظم الناس بالزراعة ولا يخافون سوى "من الله والفيضان وسوس التمر"، هم بعيدون عن "سياسة الأفندية في الخرطوم" حيث يكون الخوف من ثلاث أشياء "الله والكهرباء والعسكر"، مزارعون مثلهم مثل أهل جزيرة "توتي" التي تردد اسمها في الأخبار مؤخرا بسبب الفيضان بوصفها من أكثر المناطق تضرراً، وهي تقع عند ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض وتتوسط المدن الثلاث المكونة لولاية الخرطوم عاصمة البلاد: بحري والخرطوم وأم درمان. أهل هذه الجزيرة التي تمتد على مساحة 950 فدانا ينتمون إلى النوبيين الذين أتوا من الشمال واستقروا في هذا المكان لكي يتم إبعادهم عن قلب العاصمة. تربطهم صلات القرابة ويرفضون حياة المدينة، لذا لم يرحبوا في البداية بإنشاء الجسر الذي تم افتتاحه عام 2009 لكي يصلهم بالخرطوم، فلسنوات طوال كانت المراكب هي الوسيلة الوحيدة التي يستقلها الزائرون لكي يقضوا يوما أو بعض يوم في حدائق الجزيرة الوارفة بين أشجار الخضر والفاكهة، ومن هنا جاء سبب التسمية "توتي"، إذ تم تحريفها على الأغلب من "تؤتي أكلها"، فهي المورد الرئيسي لغذاء الخرطوم.
***
بساتين الليمون والجوافة والمانجو، والطابية التي يرجع تاريخها لأيام الثورة المهدية، وحطام مركب اللورد كتشنر الذي أصابه الصدأ، لم يشفعوا لأهل الجزيرة البالغ عددهم حوالي 150 ألف نسمة. اعتادوا أن تغرق أراضيهم ومنازلهم كل سنة وأن يلجأوا لبيوت الجيران والأصدقاء، لكن هذا العام الأمر يختلف، إذ لم ينجُ أحد، حجم الكارثة أكبر ويذكرهم بفيضان عام 1946 الذي قاومه بعضهم من قبل وسمع به البعض الآخر. يتحدث المزارعون في الشهادات المختلفة التي أوردتها الصحف عن "جنون وجموح النيل الأزرق" ويعربوا عن رغبتهم في أن تحميهم السدود من غدر النهر، حتى أن بعضهم أبدى ترحاباً بسد النهضة الإثيوبي على أمل أن يساعد في تنظيم تدفق المياه، وهو ما قد يؤثر على رؤية المفاوض مستقبلياً، وإن كانت كل هذه الآراء غير رسمية. هي بالفعل أصوات بعيدة عن "سياسة الأفندية" في الخرطوم، لكن يجب الاستماع إليها وأخذها في الحسبان، لربما كان لها وللفيضان بعض التداعيات.
حكايات القهر والونس تستمر، في الرواية كما في الحياة. تشتد أحيانا وطأة السيول والفيضانات في السودان وتزداد حالات الغرق كما في أعوام 1946 و1964 و1988 و1998 و2001 و2006. "مات ناس، ووُلد ناس. زُرع نخيل وطرح. ذهب الفيضان ببساتين، وغرس الناس غيرها. لكن فاطمة لا تيأس". تلك هي حكايات الأجيال على لسان راوي حمور زيادة، وهو ينطق بلسان حال الكثيرين ممن يخافون الغرق والهجرة واللجوء.

التعليقات