بقدر ما تكون الرؤية واضحة فى النظر إلى المستقبل تمضى الخطى بثبات وثقة بأقل تكاليف ممكنة.
سؤال الرؤية تأجلت إجابته بأكثر مما تحتمله الأوضاع المصرية وتحدياتها الضاغطة.
لا نحن نعرف إلى أين نحن ذاهبون ولا الأهداف التى توجه التخطيط السياسى للدولة.
التأجيل الطويل يفضى إلى تقويض أى حلم أيا كانت الرهانات عليه ويربك أى سياسة أيا كانت نواياها.
عندما تضغط المخاطر فى وقت واحد على الجبهات كلها فإن ضبط السياسات يجنب البلد المنهك أية ارتباكات تنال من تماسكه وهو يخوض حربا ضارية مع الإرهاب.
من وقت لآخر تتبدى إشارات عامة لفداحة الأزمات التى تستدعى لمواجهتها تماسكا اجتماعيا واسعا دون أن يكون واضحا أمام المدعوون لتحمل الأعباء الخيارات الأساسية التى تبنى عليها السياسات.
بالتعريف فإن الرؤية مسئولية المؤسسة، أى مؤسسة، والسلطة، أى سلطة.
وفى الأوضاع الاستثنائية كالتى تمر بها مصر يصبح سؤال الرؤية إجباريا وتأجيل إجابته مفضيا إلى ارتفاع منسوب القلق العام على صورة المستقبل.
ما هو مطلوب رؤية للمستقبل تؤسس لمشروع إنقاذ وطنى تحتاجه مصر بفداحة وتضبط السياق العام لأداء الدولة فلا تتنافر السياسات مع بعضها الآخر.
ومشروع الإنقاذ الوطنى لا يصح أن يعنى على أى وجه شيئا من التلفيق السياسى أو جمع المتناقضات فى سلة واحدة.
من الخيارات الكبرvvى حسم أساس الشرعية، الشرعية يجسدها الدستور لكنه لم يولد من فراغ وهناك أساس بنى عليه عنوانه «يناير» و«يونيو» وأنهما ثورة واحدة الثانية تصحح وتستكمل الأولى لا تنقض عليها وتلغيها.
أى اصطناع للتناقض ثورة مضادة تحاول استعادة الماضى بوجوهه وسياساته وتطعن فى شرعية الحاضر.
من مقتضيات الرؤية أن تكون هناك قراءة واضحة فى التاريخ لا تستسلم لنظرية المؤامرة فى يناير ولا تتقبل نظرية الإنقلاب فى يونيو.
هناك أطراف محلية وإقليمية ودولية تآمرت على «يناير» وسعت لإجهاضها وأن تذهب جوائزها لغير الذين ضحوا طلبا للانتقال إلى نظام جديدة تستحقه مصر، وهناك أطراف أخرى تسعى لإجهاض «يونيو» وأن تذهب جوائزها لغير الذين ثاروا طلبا لدولة مدنية حديثة وديمقراطية.
ومن الخيارات الكبرى التزام الشرعية الدستورية التى تضمن مستوى غير مسبوق فى إقرار الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطنين.
تنحية الدستور تنحية للشرعية، ومسائل الشرعية مثل خيوط الصلب تكاد لا ترى لكنها تستعصى على الكسر.
من الخطر أن تتمدد المخاوف والشكوك لدى قطاعات سياسية من أن الدستور جرى تعليقه على مشجب الأمن.
هناك حرب مع الإرهاب سوف تمتد لشهور وسنوات مقبلة والدور الأمنى أهميته فائقة غير أن التغول على الدستور وتعطيل التزاماته قضية أخرى.
فى الحروب تتبدى الحاجة لإجراءات حازمة واستثنائية إن لزم الأمر، فهذه مسألة حياة أو موت لبلد مستهدف فى أمنه ووجوده، وسلامة المجتمع لها أولوية مطلقة فوق أية أولويات أخرى.
غير أن تضييق المجال العام والتنكيل المادى والمعنوى بفكرة العمل السياسى والأجيال الجديدة معها يفضى إلى بيئات حاضنة للإرهاب أو إلى دولة عجوز فى مجتمع أغلبه من الشباب.
التماسك الوطنى يستدعى أن تكون التحديات واضحة والحدود لا تتجاوز الدستور الذى ينظم أية إجراءات استثنائية ويخضعها لقواعد.
القضية تلخصها معادلة الأمن والحرية، كيف نحفظ الأول دون تغول على الثانية، وهذه مسألة رؤية تصنعها التفاهمات السياسية لا القبضة الأمنية.
التحديات الأمنية لا تتوقف عند مساحة سيناء ولا فى الداخل المصرى نفسه فالحدود منكشفة شرقا وجنوبا وغربا بصورة لم تحدث من قبل فى التاريخ كله.
فى حالة الانكشاف الاستراتيجى تتمدد الأخطار على الأمن القومى إلى مناطق جديدة فى المحيط العربى، فالانهيار اليمنى يفضى إلى أخطار محققة على استراتيجية البحر الأحمر حيث تمركز الحوثيون الموالون لإيران عند رأس باب المندب والانهيار الليبى يفضى بدوره إلى أضرار بالغة على أية استراتيجية تنظر إلى البحر الأبيض فضلا عن ترسانات السلاح التى تتسرب عبر الحدود.
فى كل ملف إقليمى أزمة أمن قومى على درجة عالية من الخطورة، وهذه الأزمات تستدعى رؤية شاملة توازن بين أمور صعبة بما يوافق المصالح الاستراتيجية العليا.
ولا قيمة لأية رؤية إن استحالت إلى موضوع فى الإنشاء السياسى، فما هو مطلوب أن تتولى مهمة التوجيه السياسى لصناع القرار فى الخطوط العريضة.
بقدر ما يتوافق المجتمع فإن طاقة السياسة على النفاذ والفعل تصل إلى حدها الأقصى الممكن.
وهذه مسألة حوار يفتقدها المصريون تستدعى أفضل ما لديهم من خبرات وكفاءات ومواهب، ومن العار أن يقال إن مصر عقمت، فالكلام على هذا النحو فيه إهدار لطاقاتها وإهدار آخر لفرص التجديد فى بنيتها المتيبسة.
لملفات الأمن القومى وضع الصدارة فى أية رؤية تدرك حجم الخطر لكن حروبه لا تكسب بالأمن وحده بل بمجموع قدرات الدولة.
وهذا كلام فى السياسة يتطلب رؤية تتوافق عليها القوى الحية فى المجتمع بالوسائل الديمقراطية، فالأحرار وحدهم هم من يصنعون التفاهمات العامة.
من شأن أية رؤية لها صفتا الجدية والالتزام أن تحلحل الأزمات المتفاقمة فى المجال العام تضمن سلامة المجتمع بالفصل بين ما هو سلمى وما هو مسلح وتؤكد على الدولة المدنية بمؤسستيها الكبيرتين الجامعة والقضاء تطويرا وتصحيحا وفق الدستور.
بلا رؤية تضع الانحيازات تحت الاختبار والمهام فى التنفيذ فإن أية مواقف أيا كانت سلامتها قد تتقوض وأية إنجازات محتملة قد تفقد إلهامها.
بلا اتساق فى السياسات وفق رؤية تحكمها فإن الفوضى قد تضرب بنيان الدولة عند المنحنيات الخطرة.
سؤال الرؤية المؤجل يفضى إلى ارتفاع منسوب القلق الاجتماعى فضلا على السياسى والأمنى، فهناك من يطلب ضرب البلد فى تماسكه وأن ينقل الإرهاب إلى قلب المدن والتجمعات السكانية اعتمادا على طاقة غضب من عدل اجتماعى طال انتظاره ومظالم تأخر رفعها.
فى إجابة السؤال المؤجل لا توجد سياسة اقتصادية متماسكة تعلن القطيعة مع الماضى وفساده وتؤسس لرؤية جديدة ترفع مؤشرات التنافسية المتدنية وفق آخر تقارير البنك الدولى.
فى غياب الحسم الذى تأخر بلا مبرر مقنع بدت مؤسسة الفساد كما لو أنها تستضعف الدولة وبدت الدولة كما لو أنها تستضعف شبابها.
بحسب معلومات مؤكدة فإن هناك توجها لمواجهة مؤسسة الفساد بإجراءات تحيل بعض ملفاتها إلى الجهات القضائية وتوجها آخر لمراجعة قوائم الموقوفين تمهيدا لإفراجات عمن لم يثبت فى حقه تورطا فى العنف أو تحريضا عليه.
هذه بوادر أكبر من أن تكون نوايا وأقل من أن تكون رؤية، فالأخيرة تقتضى الشمول فى النظر إلى المستقبل والحسم فى الانحيازات الكبرى.