فى فقه المعارضة والمقاومة.. وجدران المبكى - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى فقه المعارضة والمقاومة.. وجدران المبكى

نشر فى : الأربعاء 13 يناير 2010 - 10:22 ص | آخر تحديث : الأربعاء 13 يناير 2010 - 10:22 ص

 
يسجل التاريخ للرئيس السادات عبقريات عديدة.. لانزال نعيش فى ظلها الوارف. من ذلك أنه انتهز فرصة انتفاضة الحرامية منذ 33 عاما بالتمام والكمال لكى يبتكر لما أسماه «دولة المؤسسات» تعددية حزبية يشكلها كما يشاء بحكم كونه كبير العائلة.

وأذكر أن الكتيب الذى أعده بمناسبة الاستفتاء بشأن إكساب الإجراءات التى اتخذها صفة دستورية أشار إلى «حرية تكوين الأحزاب». وعندما سألت الأستاذ الصاوى وزير الإعلام (خلفا للعطيفى الذى تصدى لجذور المشكلة) عما إذا كان هذا يعنى تخلى الدولة عن فرض الأحزاب بمعرفتها، ومنح أمرها كحرية وحيدة للشعب، سارع فصحح النسخة التى كانت بيدى، ولم يغير هذا ما ورد فى آلاف النسخ التى طبعت ووزعت.

وانتهى الأمر كما هو معلوم، إلى تنفيذ ما قرره السادات بتشكيل ثلاثة أحزاب.. أقصد أحزاب (هل هناك فارق؟!) خلفا لما كان قد ابتدعه من منابر أقامها على أنقاض الاتحاد الاشتراكى.

ورسم لكل منها دوره.. حزب يحكم تحت رئاسته، وآخر يمينى والآخر يسارى. وإذا كان الأخير قد أنقذه السيد خالد محيى الدين ــ متعه الله بالصحة والعافية ــ فإن ما استجد بعد ذلك خضع إنشاؤه لقرار من السلطة. وهكذا توالت الأحزاب، كل منها فى شكل موظف بدرجة «معارض». والغريب أنها جميعا أعجبتها الوظيفة الميرى..

وراحت تتمرغ فى ترابها. وحتى تتم الحبكة تطالب أى جماعة تريد الانضمام للجوقة بإثبات أن برنامجها يختلف عما هو قائم، حتى يطمئن المنفردون بوظيفة الحكم إلى أنها ستنشغل بالاختلافات، عسى أن تتحول إلى خلافات، وهو ما كان يدب داخل الحزب الواحد إلى أن يصدر قرار بإغلاقه أو يودع المشرفون عليه غياهب السجن.

ولم يأل الحزب الحاكم جهدا فى جلب الكوارث والنكبات ليبقى ما عداه يلهث بمعارضته.. ثم يقوم السيد رئيس المجلس التشريعى بالتنديد بالأحزاب فى حديث مع إحدى الصحف، وهو الذى يفترض فيه احترام مؤسسات حزبية لا ذنب لها إلا أنها وليدة نظام يقنن الاستبداد.

وانتقلت اللعبة من الإطار الداخلى إلى النطاق العربى. حمل السادات الورقة التى بقيت بيد العرب من المائة التى استولت أمريكا حسب قوله على الـ99 الباقية منها، وأهداها فى الكنيست إلى ربيبة أمريكا، وسار فى الطريق إلى منتهاه بتوقيع معاهدة رفضها وزراء خارجيته. وبدأت منظومة جديدة فى التشكل، حيث قادت العراق حملة الصمود والتصدى. واستبعدت مصر من البيت العربى الذى تشكلت معالمه على أراضيها فى 1945 وتبلورت قدراته بعد 1952.

واتخذ الصمود شكل تبنى أنظمة عربية لجماعات فلسطينية، محدثين تعددية فتتت بنيان منظمة التحرير التى وصفت بأنها «الممثل الشرعى والوحيد» للفلسطينيين. أما التصدى فقد تجسد فى بيانات شجب تقادمت مع الزمن حتى علاها الصدأ. فظهرت مصطلحات جديدة، مثل دول الاعتدال ودول الممانعة.

وتتساءل عما يعنيه اللفظان، وهل الممانعة تعنى الاعوجاج عكسا للاعتدال، أم أن الأمر من قبيل مواجهة بين «الرأى والرأى الآخر»، من قبيل تلك التى تعرض على الهواء من فضائياتتسعى لإثبات أن العرب ظاهرة كلامية.

وانتقلت العدوى إلى الفصائل الفلسطينية، فإذا بها تزايد على بعضها البعض لشغل وظيفة «مقاومة» وفقا لهوى الجهات المساندة، التى رأت فى ذلك سبيلا لمناوشات بالوكالة بين أنظمة كان بعضها يتبنى نفس الشعار، مستغلة حاجة أهل المحنة لموارد تبقيهم على قيد الحياة.. وأى حياة.

والأدهى من ذلك أن قوى إقليمية (بما فيها إسرائيل) استمرأت اللعبة تنفيذا لأجندات لا علاقة لها بقضايا العرب، إن لم تكن أساسا ترمى لتخريبها، فدخلت على الخط، وبعنف. وحينما بدأت معالم الثراء وتعدد القصور الفخمة تلوح على البعض ممن تولوا السلطة، تردد الحديث عن الفساد، ولم تتصد أى قوة عربية لأسبابه تفاديا للصدام مع من كانوا مصدره.

ولم يكن لمصر موقع تمارس منه عملا يعيد الأمور إلى نصابها، ويجمع المقاومة فى صف واحد.. لأنها دفنت رأسها فى رمال عمليات تفاوض تكمل ما بدأته فى كامب ديفيد، ولم تدرك ولو للحظة أنها إذا كانت قد أنهت مفاوضاتها على النحو الذى يقال إنه أعاد لها أرضها (رغم أنه لم يكفل استرداد كامل سيادتها التى تمكنها من التصرف الحر الكامل فى مختلف شئونها) استنادا لنصر عسكرى، فإن الأمر يختلف بالنسبة لشعب أعزل يخضع لاستبداد ونيران العدو المغتصب ولضياع حقوقه إلى الأبد، بما فى ذلك حقوق عودة المهاجرين.

فإذا قام هذا الفصيل أو ذاك بعمل يندرج تحت عنوان المقاومة، حيته أقلام وأفواه عربية، وأمطرته بدعوات لا تجدى أمام حرب الإبادة. فإذا انصرفوا إلى شئون داخلية، وجهت المقاومة إلى ما يبنيه كل منها لنظم حكم تتسلط على محكومين، فتمضى الأيام والسنوات لتعطى العدو فرصة لإحكام السيطرة على ما تبقى من أرض لا سلطان لهم عليها.

ويبدو أن العرب تحاشوا التطبيع السافر، فانشغلوا بالتطبع بأفعال الصهاينة دون أن يجنوا منها ما تمكن هؤلاء من تحقيقه، فى تقليد أعمى ليس من صفات الإنسان السوى. ابتدع الصهاينة ممارسة البكاء على حائط المبكى، وأقاموا جدران الفصل العنصرى، فسارعت الأنظمة العربية إلى إقامة جدران، منها ما هو فولاذى، ولكن أكثرها وأخطرها فكرى. وفى إطار ممارسة هواية المعارضة، تنهال الاستنكارات من الواقفين وراء الجدران لتحيلها إلى جدران مبكى.

والأعجب من ذلك أن تهبط حفنة من مدعى مواساة شعب معرض للإبادة لتخلق صراعا حول تلك الجدران وتنضم إلى نوبات المبكى. ولو كانوا يريدون خيرا يدّعونه لقاموا بذلك فى ديار تلك القوى التى تتهم الناجين من المحرقات الصهيونية بأنهم يهددون أمن دولة تأبى أن ترسم لها حدودا معينة أو ترتضى لنفسها هوية غير تلك التى تميزهم عن البشر أجمعين. ولو كانوا صادقين فى المساعدة لتابعوا تنفيذ المهرجان الذى عقد فى شرم الشيخ لإغاثة أولئك الذين هدمت بيوتهم ليلتحفوا السماء ويفترشوا الأرض فى شتاء قارس.

ولو أرادوا المساعدة حقا لفرضوا على إسرائيل أن ترفع حصارا عمن انصرفوا عن المقاومة إلى حفر الأنفاق وتحمل كلفتها الباهظة، وسعوا إلى استردادها من تجارة فى الأقوات.

إن استغلال مآسى قوم يعانون ما هو أسوا مما أطلق عليه الهولوكوست، لإظهار نبل أخلاق فى الرغبة للمواساة، إن لم يوضع فى إطار دعم مقاومة إيجابية مؤثرة، ملهاة يحاسب مرتكبوها هو من قبيل الادعاء الكاذب. ولم يكن هذا ليحدث لولا أن العرب أصحاب القضية تنصلوا منها وألقوها على مصر مدركين ما كبلتها به معاهدة منذ ثلاثين عاما.

ولو كانوا يريدون حلا لوضعوا مبادرتهم المزعومة فى إطار عمل عربى متكامل، يفرض على المتلاعبين بالقضية من الفلسطينيين تحمل مسئوليتهم فى توحيد الصفوف وتوجيه رصاصاتهم إلى حيث يوجد العدو المشترك. لم يكن عبثا أن أطلق عبدالناصر قولته المأثورة «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، التى يكملها أن «ما أخذ بالقوة يضيعه الضعف».

كفى بكاء ونحيبا واجلسوا معا وضعوا برنامجا تصبون فيه كل عناصر القوة التى تمتلكونها وتنتزعونها، يحدد لكل دوره فيه.. وإلا فلتمضوا فى بناء أبراج على الرمال.. لعلها تحمل دعواتكم إلى السماء.








محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات