لم تكن النكبة التى حلت بفلسطين وعالمها العربى قبل (72) عاما مما يمكن تجاوزه بمضى الزمن، أو بتعاقب الأجيال.
الحقائق تصنع التاريخ لا التدليس عليه.
افضت الهزيمة العسكرية للجيوش العربية التى دخلت فلسطين بعد إعلان الدولة العبرية فى (15) مايو (1948) إلى ما يشبه الزلزال فى العالم العربى وحكمت مستقبله لعقود متتالية وصفت خلالها القضية الفلسطينية بأنها قضية العرب المركزية.
أطاحت صدمة النكبة بنظم وعروش وغيرت معادلات وسياسات.
حلقت آمال بنصر يستعيد فلسطين، لكنها تعرضت لنكسة عسكرية مروعة عام (1967) واحتلت أراضٍ عربية أخرى.
استطاعت مصر بتحالف عسكرى مع سوريا من إحراز نصر على إسرائيل عام (1973) سرعان ما أهدرت بالسياسة بطولاته وتضحياته.
وقعت معاهدة سلام مصرية إسرائيلية عام (1979) تلتها معاهدات مماثلة فى وادى عربة و«أوسلو».
باسم «السلام المراوغ» عزلت مصر عن عالمها العربى وتمددت إسرائيل وتوحش استيطانها على حساب الأراضى الفلسطينية عقد بعد آخر.
رغم كل النحر السياسى فى العالم العربى ما زالت القضية الفلسطينية إحدى المقاييس الأساسية لأوزان وشرعيات الدول والنظم.
المأساة الكبرى فى قصة ما جرى على مدى أكثر من سبعة عقود أن هناك الآن من يطلب بالتدليس على التاريخ محو الذاكرة وتبنى الرواية الصهيونية للصراع، كأنه تسليم نهائى بالنتائج العسكرية للحرب الأولى فى فلسطين.
لم تكن الهزيمة التى تلقتها الجيوش العربية فى حرب فلسطين مفاجأة بذاتها بقدر ما كانت تعبيرا عن حقائق القوة وترتيبات واستراتيجيات المصالح الدولية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، التى انقضت وقائعها قبل ثلاث سنوات بالضبط فى مايو (1945).
بالأرقام الموثقة فإن ما استطاعت حشده الوكالة اليهودية من ضباط وجنود للحرب فى فلسطين وصل إلى (81) ألف مقاتل، معظمهم ضباط اكتسبوا خبرة عسكرية فى سنوات الحرب العالمية الثانية.
لم يكن ممكنا إرسال هذا القدر من المقاتلين المدربين إلى فلسطين ما لم تكن كل الإشارات الخضراء تتيح لهم المرور إلى ميدان القتال الجديد.
كانت التفاهمات مستقرة والرؤى الاستراتيجية لمستقبل الإقليم متفق عليها بين قوى دولية نافذة وجدت فى بيئة ما بعد الحرب العالمية الثانية فرصتها المواتية للتنفيذ.
قبل أن تصمت مدافع الحرب العالمية الأولى عام (1918) وقعت اتفاقية «سايكس ــ بيكو» لتقسيم المنطقة وتقاسم النفوذ بين الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية وتعهدت بريطانيا فى العام التالى (1917) فيما يعرف بـ«وعد بلفور» بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين.
هكذا «أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق» ــ حسب الوصف الذى أطلقه الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» فى رسالة إلى الرئيس الأمريكى «جون كينيدى».
صاغ الأستاذ «محمد حسنين هيكل» تلك الرسالة الشهيرة مجسدا الرؤية المصرية فى ذلك الوقت ومتأثرا بقواعد العدل التى تقرها القوانين الدولية، غير أن مسار الحوادث لم يتماس مع ما هو قانونى وأخلاقى.
أهدرت القوة كل معنى إنسانى فى القضية الفلسطينية، وانتهكت قواعد المنطق والقانون الدولى حتى وصلنا إلى أن يصرح السفير الأمريكى لدى إسرائيل «ديفيد فريدمان» دون أن يطرف له جفن بأن: «قيام دولة فلسطينية سيتحقق عندما يتحول الفلسطينيون إلى كنديين!».
المعنى الوحيد لعبارة الدبلوماسى الأمريكى، الذى هو من غلاة المستوطنين وليكودى أكثر من الليكوديين، أن يذهبوا إلى الجحيم.
تلك الدرجة المفرطة من العنصرية تناقض المرجعيات الدولية بالجملة والقانون الدولى الإنسانى من عند الجذور وتحرض على اجتثاث وترحيل ملايين الفلسطينيين إذا ما لاحت الفرصة.
المفارقة الكبرى فى تأسيس الدولة العبرية أنها بدت فى أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية كنوع من التطهر الغربى من المآسى البشعة التى لحقت باليهود فى المحارق النازية.
لم يكن اليهود وحدهم هم من تضرروا من المحارق النازية، فقد دفعت الإنسانية كلها أثمان باهظة لأوهام التفوق العرقى.
أسوأ ما جرى بعد الحرب العالمية الثانية قدر التوظيف السياسى والدعائى للمأساة اليهودية لاقتلاع شعب آخر من أرضه وتشريده فى المنافى البعيدة وممارسة الحد الأقصى من العنصرية على وجوده الإنسانى.
عند خط البداية استقطبت إسرائيل بالدعاية الممنهجة مشاعر قطاعات واسعة من الرأى العام الأوروبى، فهى دولة ديمقراطية وسط عالم عربى متخلف واستبدادى، تبنى وتزرع وتأخذ ببعض الأساليب الاشتراكية فى مستعمراتها الجماعية، دون التفات إلى الطابع العنصرى للدولة الوليدة وحمامات الدم التى ارتكبتها بحق السكان الفلسطينيين.
فى لحظة مكاشفة إنسانية بالحقائق دمغت الأمم المتحدة الصهيونية بالعنصرية مثل «الابارتهايد» فى جنوب أفريقيا والنازية الألمانية والفاشية الإيطالية، لكنها ألغته بوقت لاحق بتخاذل عربى أنكر حقوقه قبل أن ينكرها عليه أحد.
وأخطر ما يجرى الآن تبادل المقاعد وخلط الأوراق والتدليس على الحقائق، فالفلسطينيون الذين يتعرضون لمآس عنصرية متهمون بـ«العداء للسامية» دون أن يكون لهم أدنى دور فيما تعرض له اليهود من مآس وبشاعات.
والكلام أصبح مقصودا وممنهجا عن «نوستالجيا» لليهود فى البلدان العربية، «نوستالجيا» بلا إدانة للحركة الصهيونية، أو تعاطف جدى مع الضحية الفلسطينية.
هناك بين اليهود العرب من يحن للأيام الخوالى، وهذه مسألة طبيعية ومفهومة، لكنها لا تفى بكامل الصورة عمن يتحمل مسئولية مغادرة أوطانهم السابقة ومدى تورط أعداد كبيرة منهم فى الحركة الصهيونية، وقدر الانخراط فى أعمال عنف وتخريب ببعض العواصم العربية كـ«فضيحة لافون» التى ضبطت شبكتها فى مصر خمسينيات القرن الماضى.
لا يصح إنكار الحقائق باسم «نوستالجيا» بعضها حقيقى وأغلبها مصطنع.
إحدى المحطات التلفزيونية الإسرائيلية، الناطقة باللغة الإنجليزية، أجرت قبل أيام تحقيقا موسعا مع يهود من أصول لبنانية، أفرطوا فى الحديث عن الوطن الذى غادروه، دون أن تغادرهم ذكرياتهم فيه، الأماكن والأصحاب وأساليب الحياة، لكن عندما سأل المذيع إحدى المهاجرات: «هل تودين العودة إلى لبنان؟».. أجابت: «لا».
هناك قدر كبير من الارتباط بين العملين الدراميين اللذين بثتهما هذا العام محطة «MBC» ــ «أم هارون» و«مخرج 7» ــ والتحقيق التلفزيونى الإسرائيلى لتهيئة البيئة العامة للتطبيع المجانى مع إسرائيل وتبنى الرواية الصهيونية للتاريخ وإدانة الضحية الفلسطينية.
هناك شخصيات يهودية فى العالم ارتفع صوتها ضد العنصرية الصهيونية فى محطات عديدة مثل المفكر الأمريكى «ناعوم تشومسكى» والصحفى الاستقصائى «سيمور هيرش» والصحفى الفرنسى الراحل «إريك رولو».
هذه حقيقة لا يصح إغفالها فى النظر إلى طبيعة الصراع فقد جرى توظيف الديانة اليهودية لمقتضى استراتيجيات غربية عبرت عنها الحركة الصهيونية.
بالتوقيت تنتوى حكومة «بنيامين نتانياهو» الجديدة، كما هو معلن، ضم أكثر من ثلثى الضفة الغربية إلى الدولة العبرية وهضم ما تبقى من أراض وحقوق فلسطينية.
بترجمة إسرائيلية فإنها «العدالة التاريخية» ــ هكذا بالحرف.
وبترجمة فلسطينية فإنها انتهاك عنصرى لا مثيل لبشاعته لأية قوانين ومرجعيات دولية واغتيال مقصود لعملية التسوية وحل الدولتين قد تفضى تبعاته، كما تلوح السلطة الفلسطينية، إلى تعليق الاعتراف بإسرائيل وحل السلطة نفسها.
نحن بالقرب من لحظة انفجار جديدة، ربما تكون أخطر انعطافه فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى.
أمام أوضاع الانفجار والتمييز العنصرى الفاضح بلا أدنى غطاء أخلاقى ضد الفلسطينيين فإن دعوات التطبيع بالدراما أو السياسة تدليس على التاريخ وعار حقيقى لا يحتمل ولا يمكن أن يمر.