فى شهر يناير 2024، وخلال مظاهرة احتجاج أمام مبنى البوندستاج ــ البرلمان الألمانى ــ جرى رفع أكثر من لافتة كتبت عليها شعارات صريحة تعارض اليمين المتطرف وتطالب بحظر الأحزاب التى تسعى إلى «تقويض أو إلغاء النظام الأساسى الديموقراطى الحر»، كما ينص الدستور الألمانى بوضوح.
تلك اللافتات، والهتافات التى رافقتها، شكّلت مؤشرا لعلامات التصدع والانهيار المرتقب لذاك الجدار العظيم الحامى للديموقراطية الليبرالية، بعدما اكتسح التطبيع مع اليمين المتطرف معظم بلدان أوروبا الديموقراطية. لم تكن نتائج الانتخابات الأوروبية مفاجئة إلا لقلة من الغافلين.
سيواجه الاتحاد الأوروبى أيضا تحديات حقيقية، بما فى ذلك كيفية الحفاظ على الاستدامة المالية، قواعد الاستثمار، تعزيز القدرة التنافسية للتصنيع الأوروبى، كيفية التنافس مع الصين، الإنفاق المستقبلى لأوكرانيا، تعزيز القدرات الدفاعية، وسط احتمال عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، الأمر الذى سيؤثر على كل شىء، بدءًا من التجارة إلى السياسة البيئية.
وبرغم أن النتائج أتت أقل مما أعلنته استطلاعات الرأى، فإن النسبة التى أدت إلى صعود أحزاب اليمين المتطرف فى الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبى، تطرح السؤال بإلحاح: لماذا يصعد اليمين المتطرف بشكل متزايد إلى السلطة فى جميع أنحاء أوروبا؟
ومهما تعددت الأجوبة، فلا شك أن فى طياتها سنكتشف أن بوادر نجاح اليمين المتطرف بدت واضحة منذ فترة ليست بالهينة، إلى أن أمست واقعًا صريحًا، وباتت جزءًا من الحياة اليومية فى الديموقراطيات الغربية.
إن الصعود المثير للقوى المتطرفة هو محصلة طبيعية لشعور الناخبين فى جميع أنحاء أوروبا بخيبة الأمل الناتجة عن إحساس متزايد بأنهم غير ممثلين من قبل الأحزاب الرئيسية، الأمر الذى جعل هذه الأحزاب تحت الضغط وفى دائرة صعبة وحرجة. وضعٌ زجَّ بأحزاب المحافظين والاشتراكيين والليبراليين داخل مرجل يغلى بالأسئلة والتساؤلات العميقة والمصيرية حول مصير الاتحاد الأوروبى، بل وربما نهايته.
بهذا الصدد، يرى خبراء سياسيون أن الأسباب والعوامل الدافعة لتأرجح أوروبا نحو اليمين، والكامنة وراء هذا الاتجاه تختلف من بلد إلى آخر، لكن هناك إجماعا حول أبرز عناوينها العريضة، التى تختصر فى قضايا تتصل بمخاوف الناس من عمليات التحول التى تحدث أمام أعينهم، وفى مقدمتها قضايا: الهجرة، الأزمة المالية وتداعياتها على أزمة تكلفة المعيشة، انعكاسات الحرب الدائرة فى أوكرانيا، والتشكيك فى أوروبا.
وحسب أحد المراقبين السياسيين، فإن هذا المسار هو نتاجٌ منتظرٌ ذو صلة وثيقة بالطريقة التى أصبح بها «نموذج دونالد ترامب» حقيقة ومثالًا شائعًا فى الحياة السياسية.
وما دامت «الترامبية» أصبحت أمرا طبيعيا، فإن الأحداث التى كانت فى السابق تبدو أكثر تطرفا أصبحت عادية. ولم يعد بالإمكان إبقاء اليمين المتطرف خارج الحسابات، بعد أن حقّقت أحزابه انتصاراتها فى الانتخابات المحلية بأكثر من بلد أوروبى، وتصدّرت نتائجها استطلاعات الرأى، لتصبح قوة سياسية رئيسية فى البرلمان الأوروبى.
إضافة إلى أن الأحزاب الرئيسية فى جميع دول أوروبا لا تعتمد معارضة اليمين المتطرف بأساليب موضوعية وعقلانية، من خلال تقديم رؤى بديلة للمستقبل، وعوض ذلك فإنها تسقط فى تقليد ومنافسة الخطاب الحزبى اليمينى المتطرف، وبالتالى فالنتيجة لن تبتعد عن محاولات إضفاء الشرعية على المتطرفين والسماح لهم بتحديد شروط المنافسة وقواعد النقاش.
بالرغم من أن ما يطلق عليهم «القوى البناءة المؤيدة لأوروبا» الممثلة فى الأحزاب التقليدية والمعتدلة، لا تزال فى موقع الأغلبية، فإن هذا لم يشكل عنوانا لافتًا للانتباه فى ردود الفعل العامة، أو فى نشرات الأخبار الرئيسية والنقاشات.
بدل ذلك، انصب الاهتمام على إمكانية تأثير صعود اليمين المتطرف على توازن القوى فى مؤسسات بروكسيل، كما ولَّد أسئلة متواصلة من القلق والغضب عكستها مواقع التواصل الاجتماعى ومختلف وسائل الإعلام، ومنها مثل هذا التساؤل لمتدخل فرنسى فى برنامج نقاش تلفزيونى: «كيف انحدرنا إلى هذا الحد فى الوحل؟»، ليتلقى الإجابة التالية من أحد المحاورين: "ليس هناك شك فى أن تزايد انعدام الأمن الاقتصادى وعدم المساواة قدّم مادة وافرة للأحزاب اليمينية المتطرفة، التى قدّمت كبش فداء كإجابة. ولو أثبتت الحركات اليسارية أنها أكثر نجاحا فى إعادة توجيه هذا الغضب نحو الأهداف الصحيحة، مثل تقليص الساسة للرعاية الاجتماعية، وأرباب العمل الذين يعرضون وظائف منخفضة الأجر، والنظام المالى الذى أغرق العالم فى أزمة، فربما كان اليمين المتطرف يستحوذ على جاذبية أقل». لا ريب فى أن الأوربيين، بهذه النتائج، يمكن أن يجعلوا العالم بأكمله فى مواجهة «أزمة عولمة جديدة».
• • •
مباشرة، بعد إعلان نتائج انتخابات البرلمان الأوروبى التى رفعت اليمين المتطرف إلى أربعين فى المائة من الأصوات فى فرنسا، جاء رد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، حيث قال: «لقد سمعت رسالتكم ومخاوفكم ولا أقبلها». و«لن أترك الأمر دون إجابة». «لقد قررت أن أعيد لكم خيار مستقبلنا البرلمانى من خلال التصويت». وأعلن أن «هذا هو السبب وراء قيامى بحل الجمعية الوطنية»، كما دعا إلى إجراء انتخابات تشريعية فى 30 يونيو و7 يوليو 2024.
بدورها، لم تتأخر أحزاب اليسار فى الدعوة إلى تشكيل «قوة مقاومة كبيرة مزودة ببرنامج ديموقراطى واجتماعى وبيئى ومؤيد لأوروبا»، وأن «معسكر الديموقراطية يتحد حول أجندة تشكيل جبهة شعبية والتقدم بمرشحين مشتركين».. «فى مواجهة اليمين واليمين المتطرف، دعونا نبنى البديل، دعونا نبنى جبهة شعبية جديدة معا. أمامنا عشرون يوما لخلق الأمل.. متحدون، يمكن لليسار أن يفوز»، كما أعلن المرشح الشيوعى ليون ديفونتين على حسابه على منصة «إكس».
هل باستطاعة القوى اليسارية والليبرالية أن تعيد تشييد السور الحصين الذى بإمكانه إنقاذ أوروبا من تسونامى اليمين المتطرف؟ وتخبر المتطرفين أن «الحفلة انتهت».
وهل ستختار أوروبا السير على درب التطرف اليمينى، وفق نتائج الانتخابات الأوروبية؟ أم أنها ستستدرك الأمر لإعادة إرساء سفنها بالمرساة التى تفرضها الديموقراطية الاجتماعية والقيم الإنسانية.. أم أن عصر الهيمنة الليبرالية الغربية قد وصل إلى نهايته وحدوده القصوى، بعدما افترض مفكرون ومؤرخون أنه سيستمر إلى الأبد بعد سقوط المعسكر السوفيتى؟
هل حان الوقت لفسح المجال أمام زعماء قوميين جدد وسلطويين فى جميع أنحاء العالم، لتهيمن النزعة القومية المحافظة ومعاداة السامية وكراهية الأجانب والانتصار للاستبداد؟ هل حقا نحن أمام مشهد من مشاهد «نهاية التاريخ»؟
عبد الرحيم التورانى
كاتب مغربى
موقع 180