مقعد بجانب الشباك - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقعد بجانب الشباك

نشر فى : الثلاثاء 13 يوليه 2021 - 8:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 13 يوليه 2021 - 8:10 م

أراعى دائما عند السفر، وبخاصة الطويل نسبيا، أن يقع مقعدى على الممر. لا تختفى وراء هذا التفضيل مشكلة صحية، كما لا أشكو من معضلة نفسية تدفعنى لتفادى صحبة الأغراب. كل ما هناك أننى ارتاح إلى مد كلتا الساقين أو إحداهما من حين إلى آخر فضلا عن الاستمتاع ولو نظريا بحرية لا تتوفر عادة لركاب المسافات الطويلة، وبخاصة لعشاق المقاعد المتاخمة للشبابيك. أقدر تماما تفضيلات هذا النوع من العشاق. شرح لى أحدهم بعض غوايات هذا العشق. ذكر منها الرغبة فى الانعزال عن جماعة مفروضة عليك. صحيح أن الجلوس بجانب الشباك لا يحميك تماما من فضول الآخرين ولكنه بالتأكيد يوفر لك أعذارا لتهتم بأشياء أخرى مثل المناظر الطبيعية ومنها منظر الصحراء الممتدة إلى أفق لا نهائى. أخطأت ذات مرة حين اتهمت منظر الصحراء الشاسعة بإثارة الملل. هوجم رأيى بنقد شديد لا يستحقه وعوقبت طوال رحلة بمنعى من تبادل حديث فى أى موضوع آخر، خرجت من التجربة بدرس من أهم دروس السفر الطويل، ونصيحة أهديها لكل مسافر. اصبر حتى يبادر الآخر بالحديث. لن تعرف مسبقا طبيعة جارك فى السفر وميوله ونواياه وعقيدته السياسية ولا تستهين بما يخبئه لك القدر فى صحبة هذا الجار.. أو هذه الجارة.
•••
أرشدتنى المضيفة إلى مقعدى ولم يفتنى أنها ابتسمت للسيدة التى احتلت المقعد المجاور للشباك ابتسامة ذات مغزى، وإن كنت لم أفهم المغزى. فاجأتنى ابتسامة أخرى استقبلتنى بها هذه الجارة، جارة الساعات الطويلة القادمة إذ ليس من عادة السيدات فى مجتمعاتنا المبادرة بتوجيه التحية إلى رجال هم ليسوا من الأقارب ولا الزملاء فى العمل. قدرت جدا هذه التحية على أساس أن الرحلة الطويلة التى نحن بصدد الانطلاق فيها لا تختلف كثيرا عن مهمة عمل طويلة يتزامل فيها رجل وامرأة. أعترف بأن ردى على تحيتها لم يكن بتحية أحسن منها كما أوصتنا أدياننا. هل رأيت مسحة من خيبة أمل على وجه جارتى؟ ربما. على كل حال لم أدقق ولم أنظر إلى تلك الناحية لانشغالى بترتيب جلستى حتى وصل إلينا صوت المضيفة مرة أخرى يعلن بدء الرحلة ويحمل لنا تمنيات قبطان الحافلة برحلة سعيدة. فى هذه اللحظة تخيلت أننى سمعت صوتا آخر صادرا من ناحية الشباك، عدت إلى هناك ببصرى لتقابلنى فى منتصف المسافة التى تفصل بين مقعدينا تمنيات بسلامة الوصول، هذه المرة ليست عبر مكبر صوت وإنما مباشرة من فم جارتى، فم بألوانه الأصلية وصوت مغلف بابتسامة أليفة.
•••
قالت بنبرة واضحة وإن هامسة، «تعالى نعقد أنا وأنت اتفاقا. المشوار طويل وكلانا حاجته شديدة لتمر مدة الرحلة بسرعة وبدون ملل. اقترح عليك مشروع اتفاق بنوده سرية وأولها أن نقضى الوقت نتكلم. ثانيا: لا قيود على موضوعات الكلام، ثالثا: الاستثناءات على ثانيا بسيطة ولكنها ضرورية منها ألا يتدخل أى منا فى شأن داخلى من شئون الآخر، منها أيضا أن يتجنب طرفا الكلام بذل أى جهد أو محاولة خلال الكلام للتعرف بعمق على الآخر، وأقصد خلفيته وظروف نشأته وحالته الاجتماعية ووسائل الاتصال به بعد انتهاء الرحلة. رابعا: التسليم مسبقا بأن للكلام قدسية بمعنى أن ما نقوله هنا من باب الاعترافات أو التصريحات لا يجوز استخدامه فى مسرح أو موقع آخر أو نسبته إلى صاحبه بأى درجة من الصراحة».
استطردت الجارة قائلة «من أجل بناء الثقة بين الطرفين أحب أن أعترف فى البداية أننى تقصيت عنك فقيل فيك أنك محترم وهادئ الطبع ولم يعرف عنك تصرف شائن. أرجو ألا تغضب، ولكنك لا شك تقدر شكوك امرأة تقوم برحلة ليلية طويلة الأمد فى حافلة عامة يستخدمها ركاب من كل صوب وأصل. بعد قليل سوف تطفأ معظم الأنوار وتهدأ الأصوات وتبقى الثقة بيننا صمام الأمان الوحيد».
•••
وجدت نفسى أرد عليها. كل شىء حولى يشجعنى على الكلام، بالهمس طبعا. «تعرفين عنى شيئا أو أشياء ولا أعرف عنك إلا أقل القليل، وما أعرفه هو ما يهمنى وهو ما سوف أتعامل معه خلال الرحلة. يكفينى ما أعرف. أعرف عنك من حديثك القصير لسانا مدربا على الكلام المتقن والحريص. أعرف أيضا وجها بملامح قوية، عينان مشاركتان فى كل كلمة نطقت بها، عينان لا تغفلان. أظنهما قرأتا بالدقة الممكنة كل تفاصيلى، حتى تلك التفاصيل التى اتفقنا على ألا نقترب منها أو نحاول كشفها. معرفتك بتفاصيل رجالك يخيفهم، أليس كذلك؟ ومع ذلك أنت واحدة من النساء اللائى يثرن فى الرجل مشاعر أخرى غير مألوفة وربما متناقضة، والسبب بسيط. لقد وضعت لكل علاقة قامت بينك وبين رجل ميثاق شرف مؤقت ينتهى العمل به بانتهاء العلاقة أو ببدء فتورها. وفى الغالب تختارين علاقات لا تطول، فهى إن طالت امتدت إليها يد الفساد والغدر. أشهد بأن كل الرجال الذين عرفتهم أو زاملتهم «أخافتهم» امرأة أو أخرى فى مرحلة أو أخرى من مراحل علاقتهم بالنساء. يقولون إن المرأة إن خانت لا يفضحها رجل ولكن الرجل إن خان فضحته كل النساء. أما إن سكتت عنه امرأة ولم تفضحه فيا ويله مما سوف يلقى من عذاب على يديها. عذاب يجعله يعود فيتوسل الفضيحة».
•••
دعتنى لمشاطرتها لوحا من الشوكولاتة رفيعة المستوى. «تعجبنى طلاقة لسانك. أبشر النفس برحلة مثيرة وموفقة. سمعتك تبالغ فى دور المرأة ونفوذها، يهمنى أن لا تستنتج صفات لى وخصال من تلك التى أسبغتها على النساء عموما. أظن أنك تصورت أننى عرفتك قبل أن نلتقى على هذين المقعدين، كل ما فعلت هو أننى طلبت من مضيفة الباص التأكد من نوعية الشخص الذى سوف يجلس إلى جانبى فى رحلتنا الطويلة. تأكدت لأنها تذكرت بأنك ركبت معهم فى الأسبوع الماضى ولم تكن مشاغبا أو مثيرا للمتاعب. الآن، وبعد حديثك المطول، أستطيع القول أننى صرت أعرفك أكثر. أعرف بعض تفاصيلك خاصة وأنك حاولت إخفاءها ببراعة. أعرف مثلا، أو أتصور، أنك تمردت على نساء كثيرات. وهذا معناه أنك عرفت الكثيرات أو عشت مناخات نسائية عديدة سواء فى زمن طفولتك أو سنوات مراهقتك، أى وأنت تعيش داخل عائلتك وقبل خروجك إلى المجتمع. أنا أيضا عرفت رجالا كثيرين ولكنى لم أنشأ فى بيئة ذكورية. تعلمت قبل أن أتيقن، إن أحسن من عرفت من الرجال هم أولئك الذين نشأوا فى بيئة نسائية. نشأوا حتى نضجوا فى تربة حب شديدة الخصوبة. لا أقول أن الوجود الطاغى للذكور خصوصا فى مرحلة النشأة يفسد خصوبة تربة الحب».
•••
استعدت الإمساك بدفة الحديث واستدرت لأواجه سطوة عينيها وثراء شفتيها وسيل كلماتها المنتقاة بعناية وذكاء. أردت أن أفعل مثلها، لا تسمع فقط ما أقول بل وتقرأه أيضا فى عيناى وعلى شفتاى. كنت أمام معلمة كلام ولن أكون أقل. تعمدت الإيجاز المفيد. قلت: «أنا رجل. والرجل يبز غيره من الرجال بل ويبز نفسه إن واتته فرصة التحدث مع امرأة، لا أقول أى امرأة ولن أقول امرأة مثلك فانقض بندا فى الميثاق الذى تعاهدنا عليه. أشعر بالإنجاز يتوجنى أنا الذى فى حقيقة الأمر لم يفعل شيئا أو يبذل جهدا يستحق عليه شرف أن يقضى الليلة معك. آسف، أقصد قضاء الليلة أو بعضها إلى جانبك نتبادل كلاما. لسنا وحدنا على أية حال فالحافلة مكتظة برجال أغلبهم غارق فى سبات عميق. وبالتأكيد لا أحب أن أكون واحدا منهم، أرفض أن أكون فردا فى قطيع».
•••
لم تقاطعنى ولكنى لمحت على شفتيها ما يشبه الرغبة.. فى كلمة تقال. توقفت على الفور احتراما كعادتى دائما أمام رغبات من هذا النوع. نبهتنى إلى أن فى كلامى ما يستدعى نقاشا. قالـت «انتصف الليل أو كاد وما غصنا بعد فى أعماق تفكير كل منا. أشعر أنه لا يزال لديك ما تقول وأعرف بالتأكيد أن عندى ما أقول وهو كثير. اسمح لى أن اعترف أننى قد لا أقابل مثلك قريبا، وأعتقد أن الأساس الذى وضعناه معا خلال الساعات المبكرة من هذه الليلة الفريدة يجب أن يتحمل حوارات أطول».
بدون أى التزامات جديدة وفى ظل الميثاق نفسه وبعيدا عن أى تهيؤات أو خيالات أو مبالغات اسمح لى أن أقترح علينا أن نحدد الآن وفورا موعد العودة. نحجز المقعدين على الحافلة نفسها عن طريق المضيفة نفسها. لا.. لا، لن نتصل أحدنا بالآخر للتأكيد أو التأجيل أو الاعتذار. جارى العزيز.. أنا حقا أرغب فى أن أراك مرة أخرى وأن نستأنف الحوار ملتزمين بالميثاق، لن نحاول، إلا من خلال نقاشاتنا، التعرف على تفاصيلنا وخصوصياتنا، لن تبحث عنى إن غبت عنك، ولن أبحث عنك. تصبح على خير.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي