السلطة الخائفة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 9:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السلطة الخائفة

نشر فى : السبت 13 سبتمبر 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 13 سبتمبر 2014 - 8:00 ص

عربات أمن مركزى كثيرة أحاطت بالمكان، لم تَكُن خاوية بل ظهر على عتباتِ أبوابِها جنودٌ مُتأهِّبون، بملابِسِهم السوداء المألوفة. على الجانب الآخر مِن تلك العربات المتراصة واحدة خَلفَ مَثيلتها، وقفت أخرى أصغر حجما، داكنة الزرقة؛ تلك المعروفة مجازا باسم «بوكس» الشرطة. عادة ما يحمل البوكس سائقَه، بالإضافة إلى فردين أو ثلاثة مِن العساكر باهتى الطلعة فى زيهم الرسمىّ الأبيض، وأحيانا مِن المُخبرين أصحاب الملابس المدنيّة. هذه المرة لم يَكُن فى البوكس هذا ولا ذاك، كان هناك أشخاصٌ ذوو بِنية جسديّة مختلفة تبدو أكثر متانة، يحملون الأسلحة غير التقليدية، ولا يُمَيّز المارةُ ملامحَهم. كان البوكس مُمتلئا بأفرادٍ مُلَثَّمين.

لم تَكُن المناسبة تظاهرة، ولا أى شكل مِن أشكال الاحتجاج، بل عزاء، ولم تَكُن عربات الأمن المركزى تُحَاصِر لصوصا أو مُجرمين، بل السُرادِق المُقام فى جامع عمر مكرم. لفت الُملَثَّمون أنظار القادمين مِن ناحية ميدان التحرير، لكن المُصاب كان أكبرَ حجما مِن وجودِهم، طغى الأسى على غرابة تَجَمُّعِهم، وطَغَت مَهابةُ اللحظةِ على مشهدٍ، تَخَطّى المنطقَ والحدود.

تَساءَلَ بعضُ الوافدين حَول مَغزى هذا الحَشد الأمنى: أتخافُ الشرطةُ مِن سَجينَين؟ أتخاف مِن شابة وشاب حَضَرا مِن محبسيهما، ووقفا فى مُصابِهما يتلقَّيان عبارات التَضامُن والرَثاء مِن المُعَزّين؟ أم ترى السلطة تخافُ مِن الحضور؟ كانت الأعدادُ غفيرة ما مِن شك، أشخاصٌ عديدون ــ على اختلاف العمر ــ ينتمون إلى زُمرَة المُدافِعين عن حُلم الثورة المُجهَض، كثيرٌ مِنهم فى حال الأسى، كثيرٌ مِنهم ضاق صدره، وأدركته لحظات العَجْزِ عن الفعل، مع ذلك لم تكن هناك ــ وبكل تأكيد ــ علامات ثورةٍ وشيكةٍ، تَخرُجُ مِن السُرادق إلى القصر لتستولى على الحكم، فلماذا إذن هذا الكَمّ مِن السلاح والعتاد، وهذه الأقنعة التى تُخفى الوجوه؟ نعم السلطة تخاف؛ خوفها غامضٌ مبهم، تخاف مِن الحالمين المتشبثين بأحلامهم، تخاف؛ لا العدد بل المحتوى.

•••

كان الخوفُ حاضرا فى الأسبوع الماضى أيضا. ألغت الجهات الأمنية احتفالية الفَنّ مَيدان التى تُقام شهريا، جَامِعة عددا مِن المطربين والشعراء والرسّامين، وفِرق الغِناء والمَسرح. عُمر الفَنّ مَيدان بضع سنوات، نال شرعيته مِن مَدّ الثورة فى بداياتها، واستَمَرَّ حتى القريب رغم الجذر والانحسار. قِيل إنّ مَصدَر الخوف الأمنى هو اندساس آخرين قادرين على «التخريب». يستدعى هذا القول إلى الذاكرة تَجَمُّعات أكبر حجما بكثير، خرجت تُعلِن موالاتها للنظام، وباتت آمنة رغم احتدام الظرف السياسى وتفشّى العنف. السلطة لا تخاف التجمعات وحدها إنما الخوف، كل الخوف مِن الشعور بامتلاك القدرة على التعبير الحُرّ. نعم السلطة تخاف الحُرِّية.. تخاف مِن الأحرارِ المبدعين.

الخوفُ مرة ثالثة: السلطة تخاف المُضربين عن الطعام، تخاف العازمين على الموت جوعا فى سبيلِ قضية يؤمنون بها. السلطة لا تفهم السبب وراء إصرارهم، أو ربما هى تفهمه بجلاء شديد، ولذلك تخاف. تخاف لأنها تعرف ألا شيء سيوقفهم أو يردعهم عن المُضِيّ، تعرف أيضا إنّها تبدو الأقوى والأكثر قدرة على السيطرة أمام الجميع، وإنها لذلك مسئولة. تخاف وتحاول أن تثنيهم عن إضرابهم بكل ما تَملك مِن وسائل؛ تُطعِمُ بعضهم عُنوة، تُنَكِّل بالبعض الآخر، وتدَّعى إنهم يتراجعون، لكنها تعرف بدورها إنها تكذب، إنهم أقوياء وإنها ضعيفةٌ وخائفة.

•••

تَذَكَّرت مع لقطات الخوف الثلاث وقوفى وبضع صديقات وأصدقاء منذ سنوات مضت، أسفلَ شمسٍ حارقةٍ فى منطقة «السيدة»، مُحاطين بصفوفٍ مِن جنود الأمن المركزى. استَقَرَّ الجنود حَولنا فى نصفِ دائرةٍ؛ أغلقها علينا سورٌ حجرى ذو قضبان حديدية، ولم يسمحوا لنا بالخروج. الصورة جَدُّ مدهشة؛ سيدات ورجالٌ قلائل، ربما أقل مِن أصابع اليدين، مُحاصرون دونما سبب واضح بأجسادٍ ضخمةٍ وخوذات وعِصى. جميعنا فى الصورة ضاحكو الوجوه. السلطة تخافُ المُقَاوِمين الذين لا ييئسون، ولو اختُزِلوا فى فردٍ وحيد.

•••

السلطة تخاف رغم أنها جَبَّارة ومُسَيطِرة، رغم ما لها مِن عتادٍ وسلاح. السلطة تخاف والخوف يُزيد مِن الأخطاء، والأخطاء تورث الضعف ومزيدا مِن الخوف. السلطة تخاف مِن أنفارٍ معدودين، تخاف مِن مُدَوِّن يخترق الحدود، تخاف مِن رَسَّام جرىء، تخاف الألوان الثابتة، والأصوات المتناغمة، ومِن كل أمارات النضوج.

السلطة تخاف من نظرة التحدّى والصمود أكثر مِن خوفها مِن القنبلة التى يُلقى بها شخصٌ ويعدو هاربا، ومِن العبوة التى تنفجر عن بُعد مُخلِفة دماء وشظايا ورماد. السلطة المستبدة تخاف مِمَن يقفُ أمامها وجها لوجه.. مع المضربين.. مع الأحرار.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات