الإنسان والعمل.. ليوناردو دافنشي نموذجًا - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإنسان والعمل.. ليوناردو دافنشي نموذجًا

نشر فى : الجمعة 14 يونيو 2019 - 11:10 م | آخر تحديث : الجمعة 14 يونيو 2019 - 11:10 م

أحد أهداف الله من خلق الإنسان، هو أن يُعمّر الأرض بتوالد الجنس البشرى، وزراعة الأرض، وكسب قوته بعَرَقِ جبينه. من هنا بدأ الإنسان يسعى فى الأرض حاملًا مسئولية جسده من أكل وشرب، وصحة، وراحة... إلخ، وكانت المرأة منذ البدء نظير الرجل فى حمل تلك المسئولية بكل تفاصيلها، بالإضافة إلى إنجاب الأولاد، وتربيتهم، حتى يبلغوا ويعملوا ويستقلوا، لكن مع مرور الزمن والتطور عبر الحضارات والثقافات المختلفة، انقسم البشر إلى قسمين فى توجهاتهم نحو ما يعملون: قسم يعمل بهدف كسب الرزق، وسد الجوع، وآخر يحول عمله إلى متعة شخصية، فيستمتع وهو يمارسه، وهذا النوع الأخير يبحث عن العمل الذى يحبه ويتجاوب مع مواهبه الشخصية. لذلك يتفوق فيه على أقرانه الذين يقومون بنفس العمل، فنحن نرى بين الأطباء من يحول مهنة الطب إلى متعة شخصية له، فيتقنها ويدرس ــ ليس فقط ــ فى مجال الطب لكن فى مجالات أخرى تتعلق بالطب من قريب أو بعيد، ويهتم بشدة بالمكان الذى يمارس فيه عمله. أحيانا أدخل إلى عيادة طبيب أرى الناس مرصوصة كقوالب الطوب، يبدو الزهق على وجوههم، ومساعد الطبيب عابسًا والطبيب أيضًا كذلك، وأدخل إلى عيادة أخرى فاستمع إلى صوت موسيقى هادئة منتقاه بعناية، وأرى لوحات لفنانين تشكيليين عالميين، منهم الكلاسيكى مثل مايكل أنجلو وليوناردو دافنشى ومنهم السريالى مثل سلفادور دالى وبيكاسو.. إلخ، ومنهم من يضع تمثالًا صغيرًا من صنع أنامل محمد مختار، وكذلك لوحات لفنانين مصريين مثل بيكار والأخوان وانلى وصلاح جاهين، وغيرهم، ثم تدخل إلى حجرة الطبيب يستقبلك بابتسامة عريضة، يتحدث عن ما يهمك فهو كتب سيرتك الذاتية منذ زيارتك الأولى، وعملك وأشياء كثيرة إنسانية غير المرض، فتشعر بأنك تلاقى صديقًا تتمنى أن تراه كثيرًا. وهذان التوجهان السلبى والإيجابى نجده فى كل المهن والحرف المختلفة والمتنوعة.

***
سأتناول معك ــ عزيزى القارئ ــ هنا، نموذجًا لإنسان فنان تشكيلى مثقف أبدع، وتفانى فى عمله حتى صار عالميًا.
يحتفل العالم كله هذا العام بمرور خمسمائة عام على وفاته، فنان إيطالى تحبس رسوماته الأنفاس بوضوحها وتفاصيلها وروعتها، وقد أخضع ذلك الفنان المبدع كل شىء للاختبار بدقة شديدة، حتى صارت كل لوحة لها عنده ملف دراسى شامل، يدون فيه الملاحظات، والتى توضح نهمه فى طلب العلم، وشملت قائمة مهامه: أهمية صنع نظارات لرؤية القمر بصورة أكبر، وفى ملاحظة أخرى البحث عن وصف سبب الضحك، ثم عدد من الأسئلة الغريبة مثل: ما المسافة التى تفصل الحاجب عن ملتقى الشفتين والذقن؟ لماذا النجوم مرئية بالليل فقط؟ ما العلاقة بين فروع الشجرة وسمك جذعها؟ ما الذى يفصل الماء عن الهواء؟ أين تكمن الروح؟ ما هو العطاس والتثاؤب والجوع والعطش والشهوة؟.

ولد ليوناردو دافنشى فى بلده تدعى «دافنشى»، ومن هنا جاء اسمه كما نقول نحن «المنفلوطى والأسيوطى والبحيرى... إلخ»، وهو ولد من رجل وامرأة غير متزوجين، وبسبب هذا لم يستطع أن يسلك فى عمل أبيه المحترم سير بييرو دافنشى، فقد كان كاتب عدل أى محامى، لكنه لم يستطع بسبب مولده لأبوين غير متزوجين أن يعمل فى سلك القضاء، انتبه والده لموهبته مبكرًا فقدم لوحاته لأحد الفنانين المعروفين فى عصره، الذى وافق على قبوله متدربًا بورشته فى فلورنسا، تفوق ليوناردو على أقرانه ثم ما لبث أن تفوق على أستاذه، ومن المعروف أنه كان أعسر ووسيمًا. كان رهيف الحس فكان يشترى الطيور بأقفاصها ثم يطلقها حرة لتطير، كان منبسطًا ولطيفًا ولم يكن متجهما أبدا، بل كان سمحًا واجتماعيًا بامتياز، كان مفتونا بالهندسة فرسم خططًا لبناء الجسور والمبانى، وكان يَحلُم بالطيران، ويعتقد جيدًا أن الإنسان سيصل فى وقت ما لصنع آلة تطير به فى الفضاء. درس اللاتينية، وجمع قصائد الشعر، وقرأ إقليدس وأرشميدس، صمم آلات طائرة. كان ينتقل بسلاسة بين عالم الفن وعالم العلم والعكس. لم يكتف ليوناردو بذلك بل كان موسيقارًا موهوبًا، وقد ارتجل ليوناردو دافنشى عزف الألحان على آلة وترية تُدعى «ليرا الذراع» وهى آلة وترية من عصر النهضة. كانت هناك ثلاث لوحات لا تفارقه أينما رحل وأينما حل وفى أى مكان ينتقل إليه: لوحة يوحنا المعمدان، ولوحة العذراء والطفل مع القديسة حَنة، و«الموناليزا»، ولقد عُرضت له مؤخرًا لوحة «المسيح المخلص» فى مزاد، وبيعت بنصف مليار دولار، وقد اشتراها أحد كبار الأمراء فى الخليج.

***
من الجدير بالذكر والغريب فى ذات الوقت – ولأننا نعتبر أن الفنانين لا علاقة لهم بالعلم ــ نجد أن ليونارد دافنشى استخدم التفكير العلمى الدقيق فى فنه (الملاحظة وافتراض المشكلة واقتراح الحل وتجريب الحل.... إلخ) وهو ما لم يَسبقه أحد من الفنانين إليه فقد أخذ من العلم دروسًا لتوفير معلومات عن موضوع لوحته المزمع رسمها. ولقد شكلت المعلومات العلمية التى جمعها ليوناردو دافنشى أساسًا لكل لمسة فرشة فى رسوماته، وقد ظهر ذلك فى تميزه فى تصوير تعابير وجه الإنسان، فقد كتب فى ملاحظاته: إن الأعصاب التى تكون الوجه هى سبب «تقطب الجبين» أو «إبراز الشفتين» أو الابتسام أو الدهشة؟ وقد استطاع فى لوحاته أن يُظهر العمق العاطفى للأشخاص الذين كان يقوم بتصويرهم، فعندما تتأمل لوحاته تجد شخصيات تنبض بالحياة، لا يمكن أن تفصل بين فن دافنشى وإنسانيته، ومن أكثر القصص التى تُروى عنه أنه اخترع جهازًا صممه ليسمح للغواصين بالتنفس تحت الماء. ولأن دافنشى كان إنسانًا حليمًا محبًا للسلام، لم يُبح بسر هذا الاختراع لتيقنه أن طبيعة البشر شريرة، لذلك كان يخشى أن تُستخدم إبداعاته لتدمير السفن وقتل من على متنها. من أهم ما فى رسومات دافنشى التخطيطية هو أنها فتحت عيون طبيب عالمى متخصص فى أمراض القلب يُدعى ويلز على المنطق البديع لبنية القلب وآلياته. والذى صرح: «أن كل جزء من بنية القلب المعقدة من وريقات؛ وحبال وترية؛ وعضلات حليمية؛ وُجد ليكون فى مكانه، وصُمم لتحمِّل القوى المفروضة عليه، وبناء على هذه النتيجة استطاع ويلز أن يحدد الطريقة التى يصلح بها الصمامات المريضة.

انتقل ليوناردو وهو فى سن الرابعة والستين إلى بلدة أمبواز؛ حيث كان الملك فرنسيس الأول يعيش، وكان مُعجبًا بشدة بدافنشى وهكذا عرض عليه راتبًا مغريًا، وأن يصنع ويفعل ما يشاء. وخلال الأعوام التى أمضاها هناك رسم خططًا لمسكن ملكى جديد، ونظم احتفالات رائعة للملك، وقبل وفاته عام 1519 وهو فى سن السابعة والستين أتم سلسلة رسومات لطوفانات (جمع طوفان) تحتوى على أمواٍج كارثية من الرياح والمياه. وهذه الدّوامات التى رسمها بالطباشير السوداء، وهى تصور اضطرابًا شديدًا فى الطبيعة، كانت بمثابة إنذار منه عن خيانة الطقس والطبيعة، والتى تتكرر على مدى الأزمان، وقد صرح قبل مماته أنه يأمل أن المكان الذى عاش فيه سنواته الأخيرة، يكون مصدر إلهام للأجيال القادمة.
***
يقول كيمب وهو الذى كرس حياته لدراسة العبقرى ليوناردو دافنشى وكتب عنه على مدى خمسة عقود: «كلما ظننت أننى قد انتهيت من ليوناردو، أجده يعود للظهور من جديد».

قدمت لك ــ عزيزى القارئ ــ نموذجًا لإنسان اكتشف ذاته، وأحب عمله فأتقنه، وصار من أعظم فنانى العالم على مدى التاريخ. بلا شك أن مشكلتنا فى مصر هى افتقادنا لمثل هذه النوعية من البشر، وبالطبع العيب ليس فى البشر، لأن المصريين عندما يسافرون للخارج يتفوقون على أقرانهم من كل الدول والجنسيات الأخرى، فالعيب هنا ليس فى الإنسان المصرى بقدر ما هو فى البيئة الحاضنة له، وهو ما يجب أن يتغير فهل يا ترى يمكن ذلك؟ إنه التحدى الذى يواجهنا جميعًا.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات