باب السراى - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

باب السراى

نشر فى : الأحد 15 فبراير 2015 - 11:55 ص | آخر تحديث : الأحد 15 فبراير 2015 - 11:55 ص

حجر عتيق وكراسى مقهى بلاستيكية صفراء وساحة واسعة يطلق عليها باب السراى.. أردت أن أهرب من أخبار القتل المتكرر واللامبرر فى مصر، فاتجهت صوب البحر، جنوبى بيروت، حيث أكل السمك والفلافل، وحيث قلعة صيدا التى يقال لها قصر البحر. المدينة القديمة لم تزل قائمة خلف الأسوار، وهى تمتد من «قصر البحر» على ساحل المتوسط إلى «قصر البر» بالقرب من باب السراى: الأول قلعة محصنة من أيام الحملة الصليبية فى القرن الثالث عشر، والثانى ينسب إلى ملك فرنسا لويس التاسع، حتى لو لم يعش فعليا فيه كما يؤكد البعض.

● ● ●

عصير البرتقال الطازج بمقهى «سلوم» الشهير، إلى جوار جامع المحتسب الذى شيده عمدة الطالبين أو نقيب الأشراف وقتها (أواخر رمضان 598 هجريا)، يفى بغرض الإلهاء والنسيان.. فمن حين لآخر يحتاج النفر منا إلى استراحة قصيرة أو إلى الهروب فى دهاليز الشوارع التاريخية. يتلهى خلالها فى قصص المحتسب الذى كان يراقب الأسواق ويصدر الأحكام الشرعية، وفى العائلات الصيداوية القديمة التى يعود نسبها إلى آل البيت والتى كانت تنتخب بين أفرادها عمدة لها، حتى ألغى لقب نقيب الأشراف فى صيدا عام 1947.. عام النكبة الذى توافد بعده اللاجئون الفلسطينيون على صيدا وما حولها حتى وصل عددهم إلى 400 ألف فى المخيمات. على جدران المنازل فى ساحة باب السراى علق البعض صور ياسر عرفات، «الختيار» كما يسمونه، والبعض الآخر صور الشيخ أحمد ياسين وقادة حماس، أو صور الشهداء وقد كتب تحتها «رحمك الله يا لبنان». التفاصيل الصغيرة والخاصة بالحياة اليومية فى فترات زمنية معينة تجعلك تغوص فيها، ربما تستغرقك قليلا، لكن سرعان ما تحيلك فورا إلى الحاضر وبقوة. يحدث ذلك رغما عنك وعنها، وليس بفعل فاعل أو بترصد. يكفى أن يقول سلوم، صاحب المقهى، إنه من أصول مصرية ـــ فلسطينية، جاء أهله من هناك على الحدود ليستقروا فى صيدا، فيتكلم هو بلهجتهم ويعلق صورة المسجد الأقصى على حائط المقهى وفى مقابلها صور فوتوغرافية أحدث للأهرامات وأبو الهول ولنجوم الغناء عبدالوهاب وفريد الأطرش.. يكفى ذلك حتى تفهم كيف يتحول تاريخ حياة الأشخاص إلى ذكريات «كارت بوستال»، بطاقات بريدية وصور. ربما يجد أيضا الأشخاص العاديون أنفسهم فى صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل: خناقات على بعد كيلومترات بين جماعة «أنصار الله» المؤيدة للرئيس الفلسطينى محمود عباس وكتائب «شهداء العودة» من أتباع محمد دحلان.. كذلك مناوشات، أحيانا دامية، بين أتباع الشيخ السنى أحمد الأسير، القريب من داعش، وأعضاء حزب الله الشيعى المساند لبشار الأسد فى سورية.. يقع ضحيتها خصماء وقتلى وجرحى وأسرى، على مقربة من صيدا.

نتساءل عما كان سيحكيه الراوى القديم، الذى لا يزال كرسيه محفوظا فى مقهى «سلوم» من أيام العثمانيين، عن هذه الفترة التى نعيشها.. كيف يمكن للجالس من موقعه هذا أن يرى الأحداث بعد انسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلى ويرويها من وجهة نظره الشعبية العميقة، كيف كان سيؤرخ تلقائيا لما تعيشه ثالث أكبر المدن اللبنانية وقد احتدم الصراع فى أرض الشام ووصل منها أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ (بين فلسطينى وسورى). كيف سيختزل العلاقات بين البشر فى ظل تغير التركيبة السكانية على الأرض؟

● ● ●

الحياة خلف أسوار صيدا وفى أسواقها، حيث يتداخل العام والخاص، لا تقى من شرور الواقع.. احتمت المدينة دوما بالتجارة كميناء للتوابل القادمة من الهند والحرير من الصين والأرز من مصر والخير الوفير فى فترات حكم الفينيقيين والإغريق والرومان والبيزنطيين والمماليك والفاطميين والأمويين والفرس وغيرهم.. اختلطت المنازل والأحياء السكنية بالأسواق، لا فاصل بينهما، فالتجارة كانت نشاطا أساسيا إلى جوار الصيد. لذا يقف إلى الآن وسط حى الصاغة بيت على أغا حمود، المكلف بجباية الضرائب فى القرن الثامن عشر، أثناء الحكم العثمانى. تباشر مؤسسة الحريرى للتنمية أعمال الترميم الخاصة به، فرئيس الوزراء اللبنانى الراحل كان ابن صيدا وظل حريصا أن يرتبط اسمه بها حتى بعد وفاته قبل عشر سنوات فى الرابع عشر من فبراير أى فى مثل هذه الأيام.. عودة مرة أخرى إلى الوقت الراهن، فاسمه على اللافتة خارج البيت ذكرنا بقصة موت أخرى أو تحديدا حادثة اغتيال لا أحد يرغب فى كشف غموضها أو فى الافصاح عن تفاصيلها.. لغز آخر من ألغاز المنطقة، شيدت من حوله الأسوار العالية، والأحجار التى بنى بها السور جاءت من عصور ومبان مختلفة مثلما أحجار قلعة البحر.

التعليقات