التحرير ليس مستحيلا - مواقع عربية - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التحرير ليس مستحيلا

نشر فى : السبت 15 يوليه 2023 - 8:30 م | آخر تحديث : السبت 15 يوليه 2023 - 8:30 م
نشر موقع على الطريق مقالا للكاتب نصرى الصايغ، تحدث فيه عن غسان كنفانى، وتذكر شجاعته وجرأته فى الدفاع عن بلده «فلسطين»... نعرض من المقال ما يلى:
أؤمن بأن النسيان فضيلة. الثمانون تساعدنى كى أتغاضى عن ذاكرتى. أن أكون مُطمئنا إلى أن الماضى مضى حقا. كان علىّ أن أفرح وأحتفل، غير أننى أرى الأمل أبعد من السماء. ثم إننى مستسلمٌ لأوان المغادرة.
فجأة، أعود صبيا، أرشح طفولة واشتهاء. إنها لمعجزة أن تكون فلسطين، ولا أحد سواها أبدا، تدُلّنى على إصبعى وتأمرنى بأن أشهره إلى فلسطين.
وفجأة، بعد خمسين عاما، يعود إلينا غسان كنفانى، مُتوجا بضوء لمساحات وجودنا، يضىءُ لنا مسارات وافرة العطاء. وها نحن هنا، نعود إلى شجاعة البدء. فكل يوم بداية. المستقبل يلدنا ونلده. فأهلا يا صاحب الجراح والآلام، والانتصار لم يعد مستحيلا.
عرفنا غسان كنفانى ماضيا، ولكنه لم يمضِ. خمسون عاما، كان فيها حاضرا، لمن يتنبه إلى أن فلسطين ولّادة. وأن القبضة تتوالد، وأن اليأس خيانة، والتخلى جريمة. لم يعد صحيحا يا صديقنا غسان، أن الأبطال يموتون دون أن يسمعهم أحد، كما جاء فى «رجال الشمس». أعتذر منك. أنا أخالفك الرأى. لقد سمعناه وسمعناهم.
فلسطين منعت النسيان عن جيل يخضب أرضا وشغفا وأملا. غريب أن الشهادة مؤلمة ولكنها لا تستدر البكاء، بل تُحرّض القبضات وتحفظ مفاتيح بوابات العودة، وتصوّب العقل والطلقة، لتصيب، ولا يؤلمها أن تُصاب.
لهذا، إنى أصدّقك يا غسان: بلى، «عائد إلى حيفا». عائد إلى جان دارك فى مسقط رأسك. من هناك ارتحلت إلى المنافى: بلغت لبنان شابا، سوريا بعد ذلك، الكويت على مرمى عمل، إلى الكويت، والقرع على الخزانات والموت على الطرقات الجريحة. ثم عودة إلى بيروت وانتساب إلى الثورة وانتصاب قلم وبندقية، ورسم أفق بعيد تصل إليه بعينيك.
سيرتُك لا تُكتب كما تُكتب الأسماء فى بطاقات الهوية. أنت أفصحت عن انتمائك بطبيعية ولغة وأداء وصدق وعطاء. الصحافة كانت منصة عمل وأفق مُنال. 18 كتابا، ليست من حبر بل من حصاد الآلام والآمال. مئات المقالات فى الثقافة والسياسة وفى رسم معالم الطريق. وكان الطريق من العواصم العربية إلى فلسطين محفوفا بالشرطة والمخابرات ولصوص العقائد واشتهاءات القادة. كتبتَ حريتك فى أزمنة الحصار والنفاق و«الفتك الأخوى». يا للعار!
كتبتَ فى السياسة ولم تكن ضالا ولا مُضللا. من أين لك هذه الجرأة التى وضعت اسمك، بعد مغادرتك الغادرة، فى مقام الأسطورة.
فمن ذا لا يعرف اليوم، بعد خمسين عاما، غسان كنفانى؟ ثم، من ينكر أنك كنت عضوا فى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وهذه الجبهة الباسلة، دخلت فى امتحانات الإلغاء العربية، وفازت بحصة الأسر الراهن لقائدها أحمد سعدات، وهو أسر مؤبد، و«الجبهة» على قيد الحياة والنضال، وفى المقدمة جيل يتدفق أجيالا. مصدر نضالها، ابتكار القوة من عدم، وإصابة العدو المدجج بالارتجاج. «حى على القتال» كافية وحدها، لتحقيق الجدوى من الانتماء والارتماء فى القبضة والطلقة و.. «أنا عائد إلى حيفا».
أصحيح أن الأبطال يموتون يا غسان دون أن يسمعهم أحد؟ صح. لا وقت لدى الأولاد والأحفاد الذين تعرفهم برغم غيابك؛ لا وقت لديهم للبكاء، بل لا يستطيعون البكاء. إنهم من عالم لا يُشبه هذا العالم المثخن بالفتن والعدوان والعنف والإجرام. الفلسطينى يُولد مرتين، أو مرارا. من أمه أولا، ومن الرحم الفلسطينى دائما.
لا أكتمك سرا. أننا نبكى بالسر على زهرة شباب وشابات فلسطين. البكاء نص وبلاغة القلب، والألم نص الحياة. لذلك، يا غسان، أنت لم تمت بعد. موتك واقف على منصة ترى من فوقها، أن فلسطين ستُغيّر لعنة المسيح: «كم من مرة أردتُ أن أجمع بنيك بين جناحيى، فلم تريدوا». هو ذا بيتكم يُترك لكم خرابا. صح ما قاله وما لعنه. صح ما وصل إليه الخراب والتخريب الدولى أو الأممى إلى فلسطين، تاريخ أمتنا معيب. لدينا أساطير الانبعاث والمقاومة والقيامة، لذلك، لن يبقى طعم أرض البرتقال حزينا.
تركت لنا واقعا مؤنسا من جهة، وهمجيا من ناحية أخرى.. كيف لا، وأنت كنت شديد الاتصال بالواقع. مساحات حروفك وهوائية كلماتك معبأة بالمحنة والامتحانات. أنت ابن العواصف والخبرة والمعاناة، الابن الشرعى لمقاومة دَفعتَ ثمنها، غدرا بدمك.
أنت ابن جيل الجلجلة المتمادية، زمنا وواقعا. عدّاد الخسارات لم يتوقف بعد. رواياتك احتضنت بشفافية الأدب وتقنية الرواية وصدق اللغة وتأجج الآلام وانحسار الآمال، وكانت رفوف مكتباتنا مثقلة ومغرية، لأن الألم صار طعمه كالعرق. إننا أبناء الجلجلة، ولا بد من قيامة. وها هى الضفة ترسم لنا الطريق، وتحرير فلسطين لم يعد مجرد لافتة، تماما كما أردت: فعلا وعملا ويقينا. ها هى الطلائع سخية الدماء. عنيدة المراس. شجاعة المواجهة. مقبرة الاحتلال.
قيل مرارا: انتصار الأوهام مستحيل. صح. الفلسطينى ليس وهما. أهم ما عنده، أنه لم يعد يصدق أو يقنع بكذبة أن الطريق إلى فلسطين، تمر بالعواصم العربية. كذبة بلقاء.
هذا الفلسطينى هو سليل الأفق. تاريخنا مآسٍ. أبدعت فى كتابتها، رواية ومقالة ومواقف.
كأننى الآن أسمع صوتك. أقرأ نصوصك. وأجد نفسى خارج مدى الأرض العربية الحمقى.
الفلسطينى يا غسان يتوالد. العربى غيَّر مكان إقامته. إنه يتأبط شرا. والعروبة ماتت مدنها. فارقتنا، فى وداع بارد. لم يُدعَ إليه أحد.
هذه مناسبة تعود فيها إلينا. هذا غير كاف. لا بدَ من إعادة قراءة حبر غسان ودمه. لا بد من تأسيس نصاب متصل بالبدايات ومتوقع للآفاق. كُتبه يجب ألا تقيم فى الرفوف. نريد أن نعود إليه كتابا كتابا. نصا نصا. فعلا فعلا.
أهلا بك اليوم وأهلا بك فى المستقبل. المستقبل الوحيد المضاء.. هو فلسطين. هناك سنلتقى، فإلى اللقاء.

النص الأصلي

التعليقات