في الكتابة حياة - داليا سعودي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في الكتابة حياة

نشر فى : الإثنين 16 أكتوبر 2017 - 11:25 م | آخر تحديث : الإثنين 16 أكتوبر 2017 - 11:25 م

صيفٌ طويلٌ من القراءة ومن مطالعة الأحوال انقضى، وإذ هممتُ بمعاودة الكتابة، راودتني خواطرٌ في دوافع الكُتـّاب إذا كتبوا، وفي مقاصدهم إذا عمدوا إلى الصمت.

ثمة توافق خفي بين الكتّاب على مر العصور حول استحالة تحديد سبب امتهانهم الكتابة. يقول الراحل خوان جويتيسولو: "لو كنتُ أعلم سبباً للكتابة لما كنتُ كتبت". فمهنة القلم بحسب ما يدَّعيه عمومُ الكتاب فِعلٌ يمارسه الكاتبُ تلقائياً بمثل ما يتنفس شهيقاً وزفيراً، أو بمثل ما تتوالى خفقاتُ قلبه داخل صدره، حتى قيل إن الكاتب لا يحيا إلا بالكتابة.

كان إسحق عظيموف يكتب خشيةً الموت، أما جورج باتاي فكان يخاف إن هو توقف عن الكتابة أن يصاب بالجنون، فيما كانت الكتابة بالنسبة لمارجريت دوراس وسيلتها "للصراخ بصمت"، وهو ما يشابه مقصد الروائي التركي أورهان باموق حينما قال: "أكتبُ لأنني غاضب منكم جميعاً، من البشر كافة!".

وبعيداً عن تلك التبريرات الانفعالية، يذهب اللغويون إلى أن الكتابةَ هي الحياة في نسختها المكتملة الباقية المثالية، في مقابل الكلام الشفهي الناقص الفاني الذي لا يعبر عن الفكر إلا بصورة تقريبية تصيب الهدف كيفما اتفق. الشفهيُّ ثرثرةٌ أو إخبارٌ أو تنبيه، فيما المكتوبُ تخيّرٌ للكلمة، وتحرٍّ لنوايا الكلمة، وتوثيقٌ للرأي، وإكمالٌ لنواقص ما جاء مجتزءً مبتسراً في مرسَل الحديث. الشفهي إطلاق للكلمات، فيما المكتوب تقييدٌ لها وإعادة تنظيم لفوضى الحياة. لذا قد يبدو الكُتابُ في تكوينهم النفسي كأشخاصٍ مثاليين، لا يقبلون بالواقع من دون تغييره، ولا يُطَبِّعون مع الرداءة، ولا يتحملون مشاهد انتصارِ الظلم أو استشراءِ القبح.

•••

وبصورة أكثر وضوحاً، حدد الكاتب والأديب البريطاني جورج أورويل أربعة دوافع كبرى للكتابة: أولها أنانيةٌ مطلقة تنشد بريقَ الظهورِ وذيوعَ الصيت وتخليدَ الذكرى بعد الممات؛ وثانيها نزعةٌ جمالية شغوفةٌ بحُسن النَظم ومتانة السرد؛ وثالثها دافعٌ تاريخي يسعى لاستجلاء الحقيقة وحفظ الذكرى وتقديم شهادةٍ للأجيال التالية؛ ورابعها وآخرها دافعٌ سياسي يسعى إلى تقدّمِ العالم في اتجاهٍ بعينه، أو التأثير في الرأي العام والتغيير في أحواله ومعتقداته والتعبير عن أشواقه.

ومنذ حدد أورويل هذه الدوافع الأربعة في مقالته عام1946، بيَّن أنَّ ما مِن كتابٍ يخلو من ذلك الدافع الأخير، الدافع السياسي. ولعله السبب وراء مسارعة أمي إلى مهاتفتي كلما قرأت مقالةً لي لتقول بإشفاق حقيقي: "يا بنتي ابتعدي عن السياسة!"، حتى وإن خلت المقالة من أي إشارة إلى الأحداث الجارية. أو لعله السبب الذي كان يحدو بأبي إلى معارضتي حول طبيعة رواية "أولاد حارتنا". ففي ذلك الزمن البعيد الذي كانت تجمعني الأمسيات به، رحمه الله، كنتُ أحاججه بأن تلك الرواية فلسفية دينية. بينما كان هو يجلس مستمعاً سعيداً بحماستي الخضراء، ليعلق في نهاية مرافعاتي بأن الروايةَ نقد سياسي صريح لفتوات العهد الناصري السعيد. فإذا ما أفلتت منه العبارة، كان يقرب وجهه مني وقد شابت عينيه الزرقاوين غشاوةٌ من القلق، ليقول هامساً: "كل كتابة سياسة، لكن لا تخبري أحداً بذلك في المدرسة!".

لذلك ربما لا يحب السلطويون الكُتّاب. وأعني هنا الكُتَّابَ لا الكَتَبة، أصحابَ الرؤى لا ذوى الأبواق وقارعي الطبول ومحترفي الرقص في دكاكين الكلام التلفزيونية الليلية. فالكتابة ما هي إلا طرحُ الكاتبِ لسرديتـِه الخاصة على الآخرين، هي طريقته في عرض تصوره الذاتي للحكاية، ووسيلته الفنية لإنتاج خطاب يرتكز على جماليات الرؤية الفردية في تحريك دفة الوعي الجمعي. وهو ما لا يتسق أبداً مع نُظم الحكم الفاشية التي ترى في أطروحة الكاتب الفردية عدواناً عليها وخروجاً على نصها المعتمد واعتداءً على سرديتها الرسمية. ففي نظر السلطة المطلقة، كما في نظر الجماهير المستقطبة، الكاتبُ غير المستأنَس تلميذٌ مشاغب يرفض الوقوف في الطابور ويأبى تحية العلم، بل هو عميلٌ متآمرٌ متنمر، أو دخيلٌ مستعمر، يتحايل لاحتلال العقول واستحداث التغيير وهدم السردية "الوطنية" المستتبة الأركان.

•••

بهذا المعنى، تبدو كل كتابة مجددة ومستكشفة كتابةً سياسية، حتى وإن ابتعدت عن تناول الأحداث الواقعية الجارية، لكونها تبادر بابتكار أدوات العصر الفكرية واللغوية والجمالية التي تسمح بالخروج على النص المعتمد الموحد وبناء مجتمع التعددية، مجتمع التنوع، مجتمع الحوار الذي ترفض السلطويات قيامه.

فهل ذلك يعني أن الكتابةَ قادرةٌ على تغيير الواقع؟ يمتلك الأدباء شجاعة الاعتراف بعدم قدرة الكتابة على تغيير الواقع بصورة مباشرة. لكن ربما يجدر بنا أن نفرق بين سلطة الكتابة وضرورة الكتابة. فقد لا تمتلك الكلمة المكتوبة سلطة فعلية لكنها تبقى ضرورة حتمية لحفظ آثار الزمن على حكايا البشر، للبحث عن المعنى وسط ركام الأكاذيب اليومية، لإيقاظ الضمائر الغافلة ومواجهة الذمم التي استهوتها المخادعة، للبوح بمطاوي الظلم وتسكين خواطر المظلوم في زنزانته.

الكلمة ضرورة ملحة بديلها الوحيد هو الصمت.

في فيلم رائع بعنوان "الصمت"، امتنع فيه المخرج مارتن سكورسيزي عن استخدام الموسيقى التصويرية، واكتفى بلوحاتِ الطبيعة المبهرة وأصواتها المتدرجة بين الهمس والهدير، يتساءل قديس مبشِّر بالديانة المسيحية في يابان القرن السابع عشر عن سبب صمت الإله عن هذا الكم من الظلم والتعذيب والتقتيل الذي يتعرض له المؤمنون على يد الحكام الساموراي. وهو تساؤل يذكرنا بحيرة فقراء أهل الحارة من الحرافيش كلما مروا بالبيت الكبير في رواية "أولاد حارتنا". لينتهي الفيلم إلى أن الإله ليس صامتاً بل تصل رسالاته عبر أولئك الذين حملوا همَّ الكلمة وجعلوا من أصواتهم وأقلامهم وكتاباتهم وسيلةً لنشر رسالة العدل والخير و المحبة.

ومن اليابان اسمحوا لي أن أصحبكم إلى باريس، حيث المتحف الأشهر والأكبر في العالم، متحف اللوﭬر. فضلاً لنجتاز سريعاً ساحة نابليون الفارهة، ولنرجيء الجلوس عند النافورة البديعة المواجهة لهرم الزجاج المتألق. دعوا عنكم فضول التعرف على نفائس الحضارة اليونانية في الطابق الأرضي ولنرتقي الدرج مباشرة إلى الطابق الثاني من جناح المصريات القديمة المبهر. هناك سيطالعكم في الغرفة رقم 22، من وراء قفص زجاجي خاص، أشهر تمثال لشخصيةٍ غير معروفة في التاريخ. ستجدونه بلا اسم، ولا لقب، ولا ذكرٍ دقيقٍ للحقبة التي عاش فيها، فهو قد عُرف بمهنته وكفى، فصار اسمه ولقبه وتعريفه هو تمثال الكاتب المصري المدهش، الذي فاق تماثيل الملوك والعظماء شهرةً.

دهشةٌ عارمة تلك تأخذ بلب من يقف أمام هذا التمثال للمرة الأولى. سيراه متخذاً جلسة غير معهودة بين تماثيل الفراعنة والكهنة والعسكر. فقد اتخذ دونهم جلسة القرفصاء. سيلفتك أن مصطبته ضائعة منذ اكتشفه أوجست مارييت في سقارة في 19 نوفمبر عام 1850. ستستحسنُ دقة نحت أنامله، وستلحظ أن يده اليمنى تتخذ وضعية الكتابة لكن القلمَ غائبٌ. ربما انتزعه أحدهم، أو ضاع أثناء الرحلة الشاقة ما بين سقارة وباريس.

لكن ما سيأسرك حتماً هو عينا التمثال. عينان مكتحلتان، فيهما حدقتان بلوريتان، يتوسطهما بؤبؤ من نحاس. فإذا نظرت فيهما بدا لك التمثال حياً حاضر الذهن متأهباً لسرد قصة الكتابة كما بدأت على أوراق البردي والألواح الطينية على ضفاف نهر النيل.

في حضرة الكاتب المصري تدرك أن ثنائية الكتابة والصمت ثنائية أبدية، ظهرت منذ فجر التاريخ وهي لن تنتهي إلا بانتهائه، أو باختيارك أنت، إن قررت أن تخرج مهزوماً، أيها الكاتب الأمين العنيد. فللكتابة ضرورة وفي الكتابة حياة.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات