خطبة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطبة

نشر فى : الجمعة 16 ديسمبر 2022 - 8:35 م | آخر تحديث : الجمعة 16 ديسمبر 2022 - 8:35 م

نقلت الإذاعةُ خُطبةً افتتاحية لمؤتمر حضوره من كِبار المسئولين. دلَّ الصَّوتُ على أن صاحبَه يقرأ مِن ورقةٍ، والورقةُ فيها كلماتٌ عاريةٌ من علاماتِ الضَّبط. لم أسمع جُملةً أو عبارةً إلا ووجدت فيها ما يخرق الأُذنَ ويُزعجها.
• • •
الخُطبةُ في قواميس الُّلغة العَربيةِ هي القطعةُ مِن الكلام إذ تُلقى في الجموع، وهي المَرَّةُ الواحدةُ من الفِعل خَطَبَ، وفاعلُها خَاطبٌ والجمع خُطَّابٌ وخُطباءٌ، أما الخِطبةُ بكسرِ الخاءِ لا ضمّها؛ فتمهيدٌ لارتباطٍ طويلِ الأمدِ يجمع شَخصَين توافقت أهوائُهما. غنَّت شادية: "خُطَّابك كتير وقالوا لي" مِن كلمات فتحي قورة وألحان منير مراد؛ فحازت الأغنية نجاحًا واسعًا وانتشارًا، واقترنت بالمُناسبة السعيدة، والحقُّ أن فترةَ الخِطبة فَسَحةٌ مِن الوقت لتعميق التعارف والتآلف وتأكيد الاختيار؛ لكن العادة جرت بأن يبذلَ طرفاها جهدَهما لرَسمِ أبهى صورةٍ بعيدة عن الصِّدق، ولا عجب إذًا أن تأتي النتيجةُ مُخيِّبةً للآمال، وأن يتعدَّد الخُطَّاب.
• • •
الخَطيبُ هو المَرءُ إذ يُحسِنُ الكلامَ ويتمرَّس به، ويُذكَر من خُطباءُ العَربِ الذين طوَّعوا الُّلغةَ وامتلكوا ناصيتها؛ عُتبة بن ربيعة وعَمرو بن كُلثوم، ولا يُنسَى مَن كان منهم داهيةً في حديثِه وفِعلِه على السواءِ؛ كيزيد بن مُعاوية، والحجَّاج بن يُوسف الثقفيّ صاحبُ القولِ الباتر: إني والله لأري أبصارًا طامحة وأعناقًا مُتطاوِلةً، ورؤوسًا قد أينعت وحان وقتُ قطافها وإني لصاحبها.
• • •
مِن أشهر الخُطبِ في الزَّمن القديم خُطبَة الوداع التي حَمَلَت القَّولَ الفَصل: أيها الناس إنَّ ربَّكم واحدٌ وإن أباكم واحدٌ، كُلُّكم لآدم وآدم مِن تُرابٍ، إن أكرَمَكم عند الله أتقاكم، وليس لعَرَبِيّ فضلٌ على عَجَمِيّ إلا بالتقوى. جاءَ المَعنى بليغًا دقيق الألفاظ؛ لكن مِن الناس مَن لا يُحبُّ أن يرى، وإن رأى ساءَه أن يَعيَ ويَفهم.
• • •
ألقى الرئيسُ الراحلُ أنور السادات خُطبتَه الصادمةَ بعد تحقيقِ نَصرِ السَّادِس من أكتوبر؛ مُعلنًا استعداده الذِهاب إلى الكنيست؛ مَعقل العَدوّ المَدحور. فَغَر الناسُ أفواهَهم دهشةً، ووقف الشَّعرُ فوق الرؤوسِ، واتَّسعت الأعينُ في مَحاجِرها؛ فمَن رأى تهورًا ومَن زعمَ جُنونًا ومَن أكَّد وجودَ خُدعةٍ أو حيلةٍ وراء الكلام؛ لكنَّ الخطيبَ المُفوَّه أتبع الفكرةَ بالفِعل والكَّلماتِ بالتطبيق، وكان أن عمَّت الفَوضى وحلَّت التبعاتُ ثقيلةً مُربِكة.
• • •
على مَرّ الأعوام؛ اعتاد أغلبُنا سَماعَ خُطبةِ يَومِ الجُّمعة إذ تَجهَر بها مُكبّراتُ الصَّوتِ المُطِلَّة مِن الجوامعِ القريبة. اعتدنا أيضًا أن يكونَ قليلُ الخُطَبِ مُوفَّقًا، وكثيرُها بعيدًا كُلَّ البُعدِ عمَّا يَشغلُ النَّاسَ ويَنفعهم، وسائدها مَحفوظًا مَكرور. دارت الأيامُ وجِيء بفكرةِ الخُطبةِ المُوَحَّدة التي تُبَثُّ في الأنحاءِ كافة، فتحرمُ الناسَ من التفاعُل الحَيّ معها، وتمنعُ الخَطيبَ من عَرضِ أفكارِه واستعراضِ إمكاناتِه، ودَبج حُجَجِه وتنظيمها؛ ليستحيل الأمرُ في مُجمَلِه ضَربًا من ضُروبِ المَظهريةِ الجَّوفاء.
• • •
”أستاذنا مُؤنس قال لنا؛ فنّ الخطابة فننا.. أقدم وسيلة اتصال.. قبل الصحافة في عصرنا“؛ ذاك مَقطع من أغنية في حلقاتِ مُسلسل ”هو وهي“ الذي كتبه صلاح جاهين وسناء البيسي، وتقاسم بطولته القديران أحمد زكي وسعاد حسني، وأخرجه يحيى العلمي وعُرِضَ في مُنتصف الثمانينيات. الخطابةُ ولا شكَّ فنٌ، والمُقارعاتُ اللفظية والمُحاججة أيضًا فن؛ وكلها تستوجب إلمامًا بأصول اللغة، ومعرفة عامة واسعة تكفُل التفوُّق على الخَصمِ شكلًا وموضوعًا، وقد وَضَع الأقدمون للخُطبةِ قواعدَ ينبغي أن تُستوفَى، من ضمنِها أن يكونَ الخطيبُ قويَّ البيانِ، فصيحَ العبارةِ، قادرًا على جذبِ الانتباهِ وخَلبِ الألبابِ، إن نطَقَ صَمَت السامعون وإن كفَّ استزادوه. على كل حال، يُفترضُ أن تحملَ الخُطبةُ المُعدَّةُ سلفًا صياغاتٍ مُنمَّقة، مَحفوفةً بالعنايةِ والرعايةِ، تستثير إعجابَ المُتلقين وتشغل أذهانَهم، لا أن تورثهم التبرُّمَ والملل.
• • •
في مسرحية إنها حقًا عائلة محترمة؛ تسعى عائشة للانضمام إلى فريقِ التمثيل، بينما والدها الأستاذ أبو الفضل؛ الذي أبدع في تقديم شخصيته العبقريُّ الراحل فؤاد المهندس؛ على يقين من رغبتها في الانضمامِ إلى جماعة الخطابة المدرسية؛ لا يستطيع أن يتصور شرفًا غيرها أو مجدًا دونها، ولا يسعفه عقلُه لاستيعاب شغفِ ابنته المغاير، رغم أن الخطابةَ والتمثيل يتكاملان ولا يتعارضان.
• • •
على كل حال، دال زمنُ الخَطابة وازدهرت الركاكةُ، فباتت العباراتُ ناقصةً والمعان شائهةً، وتاهت الألفاظُ والضمائر وَسط دوَّامات التفاهةِ والرطانة. تراجع عتاةُ الخُطباءِ وتواروا خلف الركام، وحلَّ معقودو اللسان مَحَلَّ المُفوَّهين، ولم يعد مِن أمل في استعادة أرض البلاغة العفية؛ إلا أن يكف أهل الضاد عن انتحال ما نما إليهم من مفردات أجنبية، وأن يولوا لغتهم ما تستحق من اهتمام وتطوير.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات