دكار - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 9:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دكار

نشر فى : الثلاثاء 17 فبراير 2009 - 3:43 م | آخر تحديث : الثلاثاء 17 فبراير 2009 - 3:43 م

 سقط أمامي فجأة وهو يعوى، ركع على الأرض ثم أمسك بحذائي وبدأ في جذبه بعنف وهو يطلق صياحا كصياح الديك. كان رجلا في الأربعين من العمر توّج البياض فوديه، يرتدي رداء برتقالي اللون ببقع دائرية بنفسجية.

حاولت أن أسترد ساقي من يديه الفولاذيتين ولكن هيهات فقد ظل يرج ساقي وهو يهتز صعودا وهبوطا في رقصة دينية إفريقية. انسحب تركيزي كله على قدمي التي يتم انتشالها ولم ألحظ يد رجل آخر تسللت إلى جيبي المكتنز، لمحة من حدقة الرجل الراكع جعلتني أستشعر جثة شاهقة من خلفي، أمسكت اليد بعد أن أخْرَجَت أوراق الفرنكات من جيبي.

اقتنصت أنا بعضا منها بسرعة وجرى هو بما تبقى في يديه من ناحية وقفز الآخر واقفا وهرول في اتجاه آخر. فكرت لوهلة أن أعدو وراء الأول ولكن اقتراب شرطي بائس أوقفني، سألني كم أخذوا؟ فأجبته بسؤال عما سوف يفعله. فقال لي بفرنسيته السنغالية: المسامح كريم.

أكملت طريقي وأنا أضحك غصبا عني وأعد ما تبقى لدي من الفرنكات. تختلف تلك العملة عن الفرنك الفرنسي، فقد حكى لي زميلي الكاميروني في المؤتمر الخاص بالمنظمة الفرنكفونية الذي سافرنا للمشاركة فيه قصة هذا الفرنك ووجدتها شديدة التعبير عن الحال وكأنها قصة من خيال شاعر مبدع.

تم إعلان تلك العملة الفرنك سي اف اي رسميا في 26 ديسمبر 1945 بعد توقيع فرنسا اتفاقيات بريتون وودز، وهي الآن عملة خمس عشرة دولة إفريقية، ثماني دول من غرب إفريقيا وست دول من إفريقيا الوسطى بالإضافة إلى جزر القمر، وتلك الحروف الثلاثة صمدت واستمرت كما هي رغم اختلاف معناها تماما بالتحولات السياسية التي جرت على الساحة العالمية منذ الحرب الثانية وحتى الآن، فهي الآن مختصر لعبارة "الاتحاد المالي الإفريقي" وقبلها كانت إختصار لعبارة "الجماعة الفرنسية الإفريقية"، أما في بدايتها فكانت "المستعمرات الفرنسية في إفريقيا"، ولكن رغم اختلاف المسميات إلا أن الاحتلال الفرنسي واضح تماما للعيان، والحالة الاقتصادية لا تسر العدو قبل الحبيب.

الفقر يخيم على هواء المدينة، يجوب الطرقات، قررت أن أسير معه في شوارع دكار. في أول تقاطع فوجئت بحشد نسائي على مقاعد متحركة يسدون نور الشمس، جلست كل واحدة منهن وأمامها افترشت فتاة الأرض ووضعت رأسها على الساق الهامدة وأسلمت شعرها الخشن لليدين المدربتين على تضفيرها مع شعر صناعي في ضفائر رفيعة طويلة وملونة في النهاية بحبات خرز جميلة.

اتجهت يسارا لأتأمل وجوه النساء المستسلمات لعيون الشمس. كانت أول فتاة وقعت عيني عليها ترتدي سروالا ومن فوقه جلابية واسعة دون أكمام تخرج منها بكل بهجة ثدييها، جذبت بصري بعنف في اتجاه آخر، وتدريجيا اعتادت عيني على عدم تبجيل الجسد. أكملت مسيري وأنا قابض على فرنكاتي داخل جيبي حتى ظهرت جحافل جديدة من النساء وسط ملابس ملونة منشورة على حبال غسيل فوق الأرصفة، مددت بصري إلى آخر المدى واكتشفت أن الحبال أطول من هذا المدى، جلست كل واحدة وأمامها طشت وهي تغسل بكل همة.

اقتربت فدنت مني واحدة تسألني عما إذا كنت أريد غسل ملابسي فأخذت منها على سبيل الاحتياط قائمة الأسعار وفي هذه الأثناء اقتربت أخرى وبدأت تشد في قميصي مطالبة أن تقوم بغسله فورا. لم أتصور يوما أنني من الممكن أن أخاف في أي مدينة، ولكنني شعرت بمشاعر وجل وأنا اقترب من السوق الرئيسي في وسط داكار.

بدأ مجموعة من الشباب يتحرشون بي وهم يسألون عما أريد شراءه، تصورت في البداية أنهم يعملون في تلك المحلات المصطفة على جانبي الشارع أو تلك الأكشاك الصغيرة القائمة على الأرصفة وهم يقومون بعملية جذب للسياح من أمثالي لمحلاتهم، ولكنني فوجئت أنهم يحاولون دفعي إلى أي محل للحصول على عمولة أو على إتاوة من صاحب المحل وكأنهم أتوا بي خصيصا له.

ثم بدأ هؤلاء الشباب يتدافعون ويتعاركون أمامي لكي يفوز أحدهم بأحقية اصطحابي. كثيرا ما قام أمامي أصدقاء فرنسيون بمقارنة المسافة بين البشر في أوربا وفي مصر تأكيدا أننا في مصر لا نحتفظ بمسافة كافية بين البشر ولكن في دكار المسألة ليست في المسافات وإنما في مدى الالتصاق بين البشر. حاولت الهروب أو حتى الابتعاد سنتيمترات عن الشباب المحيط بي ولم ينقذني إلا سائق تاكسي انتشلني لكي يقبض على آخر فرنكاتي. وصلت إلى الفندق حزينا على حال قارتنا السمراء.

خالد الخميسي  كاتب مصري