اختفاء الأوراق - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اختفاء الأوراق

نشر فى : السبت 17 مارس 2012 - 9:25 ص | آخر تحديث : السبت 17 مارس 2012 - 9:25 ص

نشرت إحدى الجرائد اليومية منذ فترة وجيزة عنوانين، كان غريبا أن تجمع بينهما صفحة واحدة، العنوان الأول يعلن عن صدور صحيفة أسبوعية جديدة فى بريطانيا، بينما الثانى يتعرض لكتاب يؤكد نهاية عصر الصحف الورقية فى فرنسا. بين ما يحمله الخبر وما يبشر به المقال تناقض طريف، فهناك مِن رجال المال مَن يختار فى وقتنا الحالى أن يستثمر فى الصحف، وهناك مِن الصحفيين من يُصِرُّ على إعلان نهايتها.

 

 

●●●

 

مُنطََلِقا من إحصاءات ونِسَب متنوعة، يرسم الصحفى الفرنسى برنار بوليه فى كتابه «نهاية الصحف ومستقبل الإعلام» صورة مظلمة تماما لمستقبل الصحافة الورقية، فهو يشير إلى أن مستوى التوزيع قد تراجع بوضوح فى السنوات الأخيرة، وأن المساحات الإعلانية فى الصحف الوطنية الفرنسية قد تضاءلت كثيرا، وبالتالى انخفضت عائداتها المتوقعة، كما تفشى نفور القراء الشباب من كل ما هو مطبوع، سواء كان على هيئة جريدة، أو مجلة، أو كتاب.

 

يستخدم بوليه هذه المؤشرات وغيرها للتدليل على رؤيته التى يلخصها عنوان الكتاب، والتى مؤداها أن الصحف التقليدية التى اعتدناها لعقود طويلة، فى طريقها الأكيد إلى الزوال، من فرنسا ومن الدول الأخرى أيضا.

 

رأى بوليه ليس هو الأول من نوعه فى هذا الموضوع، فقد كتب كثيرون من قبل ينبهون إلى قرب الاستغناء عن المطبوعات بشكل عام، وعن التحول المضطرد من عملية الطباعة والنشر إلى استخدام أدوات ووسائط تكنولوجية حديثة، تحل محل الأوراق وتحيلها إلى التقاعد، مع ذلك ورغم انتشار هذا الرأى واكتسابه للمؤيدين، فإن ثمة شواهد على أرض الواقع تُعطى إيحاء بالعكس.

 

منذ سنوات قليلة، عقد الملياردير الأسترالى روبرت ميردوخ اتفاقا حاز بمقتضاه على ملكية «وول ستريت جورنال»، أحد أبرز وأشهر الصحف الاقتصادية فى العالم، دون أن تبدو فى رؤيته المستقبلية لمصير الصحف أية علامات للتشاؤم، عارض البعض ميردوخ خوفا من أن تتبدل سياسة الصحيفة، لكن أحدا مِن معارضيه لم يعتبر الصفقة خاسرة.

 

يبدو أن رؤية ميردوخ ظلت على حالها، ففى أوائل الشهر الجارى، أصدر العدد الأول من «ذا صن أوف صنداى» وهو عدد أسبوعى جديد من الجريدة البريطانية اليومية «ذا صن» التى يملكها، والتى تحظى بالشعبية، وقد طبع من هذا العدد وحده ثلاثة ملايين نسخة، رقم ضخم بكل المقاييس، يعنى على أقل تقدير أن الجريدة الأصلية لا تحقق خسائر، وأن الإقبال عليها ربما استدعى إضافة عدد أسبوعى، وأن تلك الإضافة لن تمثل عبئا ماليا جديدا.

 

عدد الصحف المصرية يزداد باستمرار، وربما يكون قد تضاعف فى الفترة الأخيرة بما يجعل حصر أسمائها أمرا صعبا. تصدر كل فترة قصيرة بضع صحف جديدة نُفَاجأ بها لدى الباعة، ورغم أن هذه الزيادة تأتى فى أعقاب حراك سياسى واجتماعى صاخب، بحيث لا يمكن اعتبارها مؤشرا حياديا سليما على الرواج، فإن بعض الصحف التى ولدت خلال العقد الأخير (ما قبل يناير 2011) لا تزال مستمرة فى الصدور، ومنها ما تتصاعد معدلات توزيعه. المتابع للحركة الثقافية فى مصر، يستطيع ملاحظة النمو الواضح فى دور النشر، ويمكن أن يذكر القارئ بقليل من الجهد عددا لا بأس به من تلك الدور التى تم افتتاحها حديثا، والتى تعمل وتطبع وتُسَوِّق كتبها ومنشوراتها، ونعلم أنه لم تصبها حالة من الإفلاس الجماعى حتى الآن.

 

●●●

 

«بوليه» ذاته صاحب نبوءة نهاية الصحافة الورقية، استخدم فى توصيل فكرته إلى الجمهور الأوراق، وهو يضع ضمن المؤشرات التى ذكرها فى كتابه ما يفيد بارتفاع إيرادات الصحف المجانية من الإعلانات، الأمر الذى يعنى أن تلك الصحف تحديدا تلقى الرواج، وأن المعلنين يدركون ذلك ويستخدمونه، وأن المواقع الإلكترونية لم تحل محلها بشكل كامل بعد، الاستنتاج التلقائى الذى يمكن الخروج به هو أن الأوراق لا تزال تؤدى وظيفتها بشكل ما.

 

بين رؤيتى «بوليه» و«مردوخ» مسافة واسعة لكنها ليست بمستغربة، فالطريقة التى يفكر بها الاقتصادى تختلف حتما عن رؤية الكاتب أو الصحفى، ربما يجد بوليه فى الصحافة الإلكترونية حرية أكبر تجعله ينتصر لها، ويجد مردوخ فى الأوراق فائدة أعلى تحرضه على الاستثمار من خلالها، يرى كل منهما الأمر من الزاوية التى يقف فيها.

 

ربما تجد نبوءة «بوليه» طريقها إلى التحقق؛ نصحو يوماَ من الأيام، فنجد الجرائد والمجلات وقد اختفت تماما من حياتنا، ونجد أنفسنا وقد انتقلنا بصورة كاملة إلى استقاء المعلومات والمعارف عن طريق الوسائل التكنولوجية المتطورة، لكن هذا لن يحدث فقط بسبب أفضلية تلك الوسائل، بل لأننا أيضا نسقط فى كثير من الأوقات ضحايا لفنون التسويق المتطورة، التى تعتمد على صناعة الفكرة وتقديمها إلى الناس، ثم الإلحاح عليها حتى تتحول إلى أمر واقع.

 

●●●

 

عن نفسى أجد متعة فى حمل كتاب معى أينما ذهبت، وفى قراءة الجريدة الورقية، وأظن أن هناك من لايزال يشعر بمتعة التطلع فى المساحة الواسعة المفرودة، وفى اختطاف عناوين الصفحة الأولى قبل الانخراط فى زحام العمل، وفى لمس الأوراق وصوت تبديل الصفحات مع رشفات كوب القهوة.. متع صغيرة لكنها لبعض الأشخاص تظل جالبة للبهجة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات