في ذكرى مصطفى النحاس (2) - علاء الحديدي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في ذكرى مصطفى النحاس (2)

نشر فى : الإثنين 17 يونيو 2019 - 10:00 م | آخر تحديث : الإثنين 17 يونيو 2019 - 10:00 م

جاء انتخاب مصطفى النحاس رئيسا لحزب الوفد فى عام ١٩٢٧، ليكرس انتصار جناح «المتطرفين» من الأفندية والمحامين داخل حزب الوفد، كما جاء فى المقال السابق. وكان على النحاس استكمال المعركة التى بدأها سعد زغلول من أجل تثبيت حق حزب الوفد كالممثل الشرعى للأغلبية الشعبية فى تشكيل الحكومة والتفاوض مع بريطانيا حول استقلال مصر. ثم جاء تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ الذى أصدرته بريطانيا وتم بموجبه منح الاستقلال لمصر ليفرض على حزب الوفد أن يصبح إلى جانب كونه ممثلا للحركة الوطنية ينادى بالاستقلال ممثلا أيضا للحركة الديمقراطية التى تنادى باحترام الدستور وتطبيقه. فبريطانيا أرادت بتصريح فبراير تحقيق هدفين؛ الأول كان تقوية مركز المعتدلين وكان يمثلهم وقتئذ حزب الأحرار الدستوريين فى مواجهة المتطرفين الممثل فى حزب الوفد عن طريق تلبية مطلب الحركة الوطنية الرئيسى فى الاستقلال، ولكنه كان استقلالا صوريا لتضمنه احتفاظ بريطانيا بتأمين المواصلات البريطانية فى مصر، وبالدفاع عن مصر، وبحماية المصالح الأجنبية والأقليات، وبالسودان. الهدف البريطانى الثانى كان تقوية مركز المعتدلين وإضعاف سعد زغلول و حزب الوفد بإظهارهم بمظهر الساسة الذين لم تحقق شعاراتهم أى مكاسب للجماهير، فيخسروا الانتخابات التى كان مزمع عقدها بعد إقرار الدستور (وهو دستور ١٩٢٣)، وليتولى حزب الأحرار الدستوريون الحكم. وبذلك يتم إضفاء الشرعية اللازمة على تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ مع تحفظاته الأربعة، ولكن بمباركة الشعب وتأييده هذه المرة.

لذا أصبح سعد زغلول ومعه حزب الوفد لا يرى النضال ضد بريطانيا كمعركة وطنية فقط ضد عدو أجنبى، بل أصبح لها بعدا داخليا يتمثل فى الصراع الديمقراطى ضد أنصار بريطانيا فى الداخل، خاصة وأن من كان سيفوز بالانتخابات (والتى عقدت فعلا فى عام ١٩٢٤)، كان سيقرر مدى شرعية تصريح ٢٨ فبراير من عدمه. وعليه ومنذ هذه اللحظة تحول النضال من المناداة بالاستقلال إلى الصراع حول الحقوق الديمقراطية للشعب، وأضحى الوفد حركة ديمقراطية دستورية. وأصبح النضال من أجل احترام حق الشعب فى نظام دستورى ديمقراطى يمثل عصب كفاحه وتحركاته.

ومن هنا يمكن فهم المعارك والمواجهات التى كان على النحاس خوضها فى كفاحه من أجل التصدى لمحاولات بريطانيا الالتفاف على مطالب الشعب المصرى فى الاستقلال التام. ولماذا تمسك النحاس باحترام الدستور والعملية الديمقراطية، وخاصة بعد أن أصبحت سياسة بريطانيا تقوم على حرمان النحاس وحزب الوفد من حقه الدستورى طالما تمسك بمطالبه فى الاستقلال التام. وهكذا أصبح المسرح السياسى يدور فى حلقة مفرغة من انتخابات حرة نزيهة، تفرز أغلبية ساحقة لحزب الوفد، الذى يقوم بدوره بتشكيل الوزارة، ليدخل فى مفاوضات مع بريطانيا تنتهى بالفشل نتيجة لتعنت بريطانيا فى منح البلاد استقلالها الكامل، فيتم إقالة الوزارة وإجراء انتخابات جديدة تزور فيها النتيجة ولتشكل أحزاب الأقلية المدعومة من القصر وكبار ملاك الأراضى الزراعية الحكومية. ونتيجة لذلك يتحول نضال الوفد من مواجهة بريطانيا إلى مواجهة مع القصر وحكومات الأقلية لاستعادة حقه فى تشكيل الوزارة والتفاوض مع بريطانيا.

تكرر ذلك بعد تشكيل النحاس لحكومته الأولى فى عام ١٩٢٨، ثم بعد تشكيل حكومة ١٩٣٠ وفشل المفاوضات مع بريطانيا والتى عرفت باسم النحاس هندرسون ولتعطى بريطانيا الضوء الأخضر للقصر الملكى لإقالة النحاس وإلغاء دستور ١٩٢٣. ويتحول نضال النحاس وحزب الوفد والشعب المصرى من مواجهة بريطانيا إلى المطالبة بعودة دستور ١٩٢٣. ومع اشتعال الحرب الايطالية الأثيوبية فى أكتوبر ١٩٣٥ وتجمع نذر الحرب العالمية الثانية وإدراك بريطانيا لأهمية توقيع معاهدة مع مصر تحظى بتأييد أغلبية الشعب لتأمين مصالحها، يعود النحاس للحكم بعد عودة دستور ١٩٢٣ وإجراء انتخابات حرة يفوز فيها النحاس وحزب الوفد كما كان متوقعا. هذا، ورغم أن معاهدة ١٩٣٦ لم تكن تمثل ما كان يريده الشعب المصرى من تحقيق للاستقلال التام، إلا أنها كانت بموازين القوة فى ذلك العصر تمثل خطوة كبرى للأمام بما منحته لمصر من حق تكوين جيش وطنى وإلغاء الامتيازات الأجنبية، وبالتالى إلغاء أحد التحفظات الأربعة (حماية المصالح الأجنبية) وبدء العمل على تقليص تحفظ آخر (حماية البلاد). ومع استنفاد الغرض من وجود النحاس بتوقيع معاهدة ١٩٣٦ عادت البلاد لسيرتها السابقة وتم إقالة النحاس ليعود إلى صفوف المعارضة والمطالبة باحترام الإرادة الشعبية والنظام الدستورى.

ولعل ما سبق يفسر بعض ملابسات قبول النحاس تشكيل وزارة وفدية خالصة فيما عرف بـ«حادثة ٤ فبراير ١٩٤٢». وهى الحادثة التى شهدت محاصرة الدبابات البريطانية للقصر الملكى فى عابدين وإجبار الملك فاروق على الاختيار بين التنازل عن العرش أو تكليف النحاس بتشكيل الحكومة. وكان دافع بريطانيا فى ذلك حاجتهم إلى وجود حكومة تحظى بإجماع شعبى تقف معهم فى مواجهة ما كانوا يرونه من أخطار تحدق بهم بعد خروج مظاهرات تهتف باسم قائد القوات الألمانية التى كانت تتقدم صوب الإسكندرية بشعارات مثل «إلى الأمام يا رومل». يضاف لما سبق ما كان يشاع عن اتصالات بين القصر ودول المحور وخاصة إيطاليا. الأمر الذى اتفقت معه رؤية النحاس فى حقه الدستورى مع المصلحة البريطانية فى أهمية هزيمة دول المحور بما تمثله من نظم فاشية معادية للديمقراطية وحلفائهم فى داخل مصر وعلى رأسهم القصر الملكى. وقد استغلت أحزاب الأقلية هذه الحادثة واتهمت النحاس بأنه أتى إلى الحكم تحت أسنة الحراب الإنجليزية.

ولكن تاريخ النحاس لا يتوقف عند حادثة ٤ فبراير، فمع قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، يتم إقالته كما كان يحدث من قبل وبعد أن تم استنفاذ الغرض من وجوده ولتعود البلاد مرة أخرى إلى سابق سيرتها. إلا أن القصر الملكى يضطر وبعد مرور خمس سنوات إلى إجراء انتخابات يفوز فيها حزب الوفد وليشكل النحاس وزارته الأخيرة فى يناير ١٩٥٠. وهنا يسجل النحاس أروع مواقفه الوطنية عندما وصلت المفاوضات مع بريطانيا إلى طريق مسدود بإعلانه مقولته الشهيرة أمام مجلس النواب فى ٨ اكتوبر ١٩٥١ «من أجل مصر وقعت معاهدة سنة ١٩٣٦، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها». وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام الحركة الوطنية والقوى الاجتماعية الجديدة التى ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية من فتح صفحة جديدة فى النضال ضد بريطانيا وما تمخض عنها من أحداث أفضت فى نهاية الأمر إلى سقوط النظام الملكى بأكمله وقيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، كما سنرى فى المقال القادم إن شاء الله.

التعليقات