نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب حسام الدّين صالِح نعرض منه ما يلى:

يُخالف ستيفن بينكر، الأكاديمى الأمريكى وأستاذ عِلم النَّفس فى جامعة هارفارد، معظم الآراء المُستقرّة على القناعة المؤمِنة بتفاقُم مُعاناة البشريّة بسبب زيادة وتيرة العنف فى العالَم. يبدو بينكر أكثر تفاؤلا حيال العنف وأكثر وثوقا برأيه القائل إنّ العنف فى العالَم فى تناقُص بعكس ما يُنظِّر له الكثير من العُلماء والسياسيّين. يؤكِّد بينكر هذه النظرة التفاؤليّة منذ نشْره كِتابه الأول حول العنف فى العام 2011 بعنوان «فضل الملائكة فى جوهر الطبيعة البشريّة»، معددا فيه ستّة أسباب رئيسة تجعل العنف فى المُجتمعات البشريّة يَنخفض باستمرار عكس كلّ التوقّعات.

يواصِل بينكر فى نظرته الإيجابيّة لواقع العنف فى العالَم بنشره فى فبراير 2018 كِتابه الأخير حول العنف بعنوان «التنوير الآن»، حيث يستند فيه إلى آرائه السابقة بشأن انخفاض العنف فى العالَم ليدعو إلى تحسين شروط الحياة البشريّة.
فى حججه على تراجُع ظاهرة العنف، يستند بينكر إلى أرقام وبيانات إحصائيّة تاريخيّة، ولا يبدو أنّه هو الباحث الوحيد الذى حاول تحليل بيانات إحصائيّة تاريخيّة ليُثبت بطريقة كميّة انحسار معدّلات العنف فى العالَم، فهناك على سبيل المثال دراسة أجراها جون مولر من جامعة ولاية أوهايو فى العام 2009، أكَّد فيها أنّ عدد الحروب المستمرّة التى عُرفت بأنّها صراعات أدّت إلى 1000 حالة وفاة على الأقلّ فى السنة انخفض من 26 حربا فى العام 1991 إلى 5 حروب فى العام 2007. كما سبق بينكر فى استخدام بيانات إحصائيّة لقياس العنف المؤرِّخ تيم هيتشكوك، من جامعة ساسيكس فى المَملكة المتّحدة، والفيزيائى سيمون ديديو فى جامعة إنديانا، حيث استخدما أساليب إحصائيّة لتحليل الطريقة التى تغيّرت بها لغة العنف المُستخدَمة فى قاعات المَحاكِم، حيث دَرسا سجلّات 200 ألف مُحاكَمة فى بريطانيا وتوصَّلا إلى أنّ لغة العنف انخفضت بحلول أوائل القرن العشرين، حيث كان الحديث عن الدمّ أو السكاكين فى القرن الثامن عشر أمرا اعتياديّا فى قضيّة سرقة بسيطة مثلما هو كذلك فى قضيّة جريمة قتل، إلّا أنّ كلمات «الدمّ» أو «السكّين» فى أوائل القرن العشرين أصبحت أكثر عرضة للظهور فى مُحاكمات الجرائم العنيفة فقط، الأمر الذى قادَ الباحثين للإشارة إلى تزايُد النفور من العنف والوحشيّة فى المجتمع البريطانى فى القرن التاسع عشر. إلّا أنّ ما يجعل دراسات بينكر حول العنف أكثر عرضة للفْت الانتباه، هو أنّها كانت موسَّعة بشكل كبير، حيث شَملت فترات تاريخيّة طويلة، فضلا عن أنّها استفادت من إمكانات تخصّصات أكاديميّة متعدّدة.

ماذا عن فرضيّة انحسار العنف؟

فى محاولته لتفسير نظريته فى انحسار العنف كظاهرة إنسانيّة، لا يعوّل بينكر على التغيّرات فى الطبيعة البشريّة، بل إنّه ينفيها، لكنّه يرى فى المقابل أنّ هناك ميولا فى الطبيعة البشريّة تدفع باتّجاه العنف وأخرى تدفع لمنْعه. يحصر بينكر الميول التى تدفع باتّجاه العنف فى خمسة ميول هى: الشراسة، الهَيمنة، الرغبة فى الانتقام، الساديّة، الأيديولوجيّة؛ بينما يحصر الميول المانعة للعنف فى أربعة ميول هى: التعاطُف، التحكُّم فى الذات، الحسّ الأخلاقى، العقل.

لا يرى بينكر أنّ الصراع بين هذه الميول الإيجابيّة والسلبيّة فى الطبيعة البشريّة هو السبب الوحيد فى الحدّ من العنف فى العالَم، لكنّه يعتقد أنّ هناك توجّهات عدّة وتحوّلات خارجيّة عزَّزت من انحسار العنف عبر التاريخ، ويجملها فى: ظهور الدولة الحديثة واحتكارها للقوّة والعنف بالقانون، تطوُّر التجارة الدوليّة وتشجيعها على اعتماد الدول على بعضها، تيّار النسويّة ودعمه لحقوق المرأة ومُشاركتها فى الحياة، توسُّع الإعلام وانتشار التعليم وتعزيزهما للتعاطف والاحترام، وتزايد اللّجوء إلى العقلانيّة والمنطق.

بناءً على مُقارباته النظريّة لعمل العنف، وتحليلاته للبيانات التاريخيّة، يرى بينكر أنّ انحسار ظاهرة العنف البشرى عبر ستّة اتّجاهات وتحوّلات تاريخيّة هى: التهدئة، التحضّر، الثورة الإنسانيّة، السلام الطويل، السلام الجديد، ثورات الحقوق.

تعرَّضت أطروحة بينكر لعددٍ من الانتقادات تركَّز كثيرٌ منها فى البيانات التاريخيّة التى استند إليها، والتى كانت تجتهد فى تأكيد أنّ الماضى كان أكثر عنفا ممّا نتخيّله. هذا فضلا عن أنّ من أكثر الأفكار التى كانت عرضة للنقد مقولته عن «السلام الطويل» الذى يعيشه العالَم، حيث يَصف المتخصِّص بالإحصاء وبحوث التنبّؤ الأكاديمى الأمريكى نسيم طالب فكرةَ السلام الطويل بأنّها ليست سوى «وهْم إحصائى» بحسبان أنّ ما لَحظه بينكر ليس سوى تباعُد فقط بين وقائع العنف وليس تناقُصا فى العنف. وتؤكِّد دراسة احصائيّة لنسيم وكريلو أنّ السلام الطويل ليس سوى ادّعاء، وأنّ العنف لا يتناقص بمرور الوقت، وأنّ البيانات التى لا تُعتبر ذات دلالة إحصائيّة لا يجب أن تُستخدَم أبدا لبناء النظريّات العِلميّة. يقول جون جراى: «صحيح أنّ الوفيّات انخفضت فى ساحة المعركة وأنّها قد تستمرّ فى الانخفاض. من زاوية واحدة يُمكن اعتبار ذلك بمثابة شرط متقدِّم للسلام، أمّا من وجهة نظر أخرى تنظر إلى التنوّع والشدّة التى يتمّ بها استخدام العنف، فيُمكن وصف «السلام الطويل» كشرط للصراع الدائم».

إنّ الذى تناقصَ من العنف وفقا للتحليل الإحصائى الذى قام به بينكر هو العنف السريع المتمثّل فى الحروب، أمّا العنف الذى لم يتحدّث عنه بينكر فهو بلا شكّ العنف البطىء الذى لا يقتل ضحاياه بسرعة، ويجعلهم يتألّمون أطول فترة مُمكنة فى السرّ لا فى العلن.

وبرأى جون أركويلا، فإنّ الحجّة القائلة إنّ العالَم أصبح أكثر سلما تبدو كأمنيّة بعيدة المنال إذا ركَّز المرء على أنماط الحروب الأكثر تدميرا فى القرون القليلة الماضية. هناك أنواع كثيرة من القوّة المميتة التى لا تُنتج الموت الفورى. يتساءل جون جراى على سبيل المثال: «هل يظهر اللّاجئون الذين يختفون بحياتهم فى الإحصاء؟ فحيث يُستخدم التعذيب فى الحرب، هل سيشكِّل ضحاياه فى حساب التفاضل والتكامل إذا ما خضعوا لسنوات بعد ذلك من الأضرار البدنيّة والعقليّة التى لحقت بهم؟ هل يجد الأطفال الذين يولدون لحياة قصيرة ومؤلِمة نتيجة التعرُّض لليورانيوم المكثَّف مكانا فى نداء الموتى؟ إذا كانت النساء اللّواتى تعرَّضن للاغتصاب كجزء من استراتيجيّة عسكريّة للعنف الجنسى يَمتْن قبل وقتهنّ، فهل ستعبّر عنهنّ الجداول الإحصائيّة؟».

***
حجج بينكر قد تكون محقّة وفق المُقارنات العدديّة الإحصائيّة لوقائع عنف الحروب وضحاياه، لكنّ «إحدى المُشكلات المُتعلّقة باحتساب عدد الأحداث العنيفة فى فترة زمنيّة معيّنة ــ كما يقول آرثر بيرجر ــ هى إهمال أنواع معيّنة من العنف وطريقة استخدام العنف فى نصّ معيّن»؛ ولهذا فإنّ الذى لم تأخذه أطروحة بينكر فى الاعتبار هو أنّ العنف، وإنْ فرَضْنا أنّه يتناقص، إلّا أنّه نوعيّا يتطوّر ويتشكّل فى أُطر جديدة، بجانب اتّساع نِطاقه بسبب العَولمة والتطوّر التكنولوجى؛ فضلا عن تلبّسه بغطاء المؤسسيّة، والتنظيم، وحتّى المعرفة، وهى المؤشّرات نفسها التى يستند إليها بينكر لتدعيم حجّته بتطوّر وضْع العنف فى العالَم إلى الأفضل. أو بعبارة أخرى لاستيفن زفايج، فإنّ «العنف يعود إلى الوجود فى كلّ حقبة تاريخيّة بأشكالٍ جديدة».

برأى ألفين توفلر، فإنّ ما يدعو إلى الدهشة هو التغيّر الذى طرأ على طريقة استخدام القوّة. يقول فى كِتابه «تحوّل السلطة»: «فلو عاد من جديد أحد ملّاك العبيد أو سيّد إقطاعى من الأزمنة القديمة إلى العالَم الحالى، فإنّه سيجد صعوبة فى تصديق أنّنا نضرب العاملين بدرجة أقلّ، وعلى الرّغم من ذلك، فإنّهم ينتجون أكثر، بل إنّه سيَجد ذلك شيئا مذهلا».

كأن بينكر كان يبنى تحليله واستنتاجاته من واقع نَوعٍ واحد من أنواع العنف وهو العنف المادّى المباشر. ولكن ماذا عن مؤشّرات الأنواع الأخرى من العنف؟ إذا كان بينكر يتحدّث عن تناقص الحروب وضحاياها فى العصر الحديث فأين سنضع النقاش حول الحروب الاقتصاديّة مثلا وضحاياها، إذا كان الموت السريع قد تناقص فإنّ الموت البطىء وغير المُعلن بسبب أنواع العنف الرمزى والهَيكلى والموضوعى قد تزايد هو الآخر.

النص الأصلى:

https://bit.ly/2N9rkMr