القارح فى مملكة الجن - حسام السكرى - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 3:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القارح فى مملكة الجن

نشر فى : السبت 17 سبتمبر 2016 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 17 سبتمبر 2016 - 9:10 م
جلست أمامه وحدى فى حديقة نقابة الصحفيين القديمة. قلت له بهدوء حاولت أن يخفى توترى: «كل من ذكرتهم ينكرون تعاونهم معك، أما الدكتور فقال لى إنه يعرفك جيدا، ويؤكد أنك نصاب».

اقتربت بالميكروفون من شفتيه وانتظرت رد الفعل فى قلق.

كان هذا هو المقطع الأخير فى تحقيق إذاعى أجريته منذ سنوات بعيدة، كان محوره نصاب لم يسبق لى أن التقيت مثيلا له من قبل. تقابلنا فى صحبة مجموعة من الصحفيين والفنانين. علمت منهم أنه معيد فى الجامعة، قبل أن يضيف أحدهم فى وجل أن الشاب خبير متمرس فى التعامل مع... الجن وأن هذا هو مجال عمله الحقيقى.

طريقته فى الحديث كانت «مودرن» وتثير الإعجاب، فطلبت منه أن نلتقى فى اليوم التالى لإجراء حوار مطول. استقبلنى فى شقة يعيش فيها مع أهله فى أحد أحياء مدينة نصر البعيدة. وفى أكثر من جلسة حوار و«تحضير»، حكى لى قصته مع قرينته «الحاجة صيرا» التى عرفته على مملكة الجن الشاسعة، وصحبته فى رحلات متعددة بين أطرافها.

شجعنى خياله على طرح أسئلة غير تقليدية، عن طبيعة النشاط الاقتصادى للمملكة، ونظامها السياسى. تدفقت إجاباته ومعها أفكار لـ«الاستفادة بخبرات الجن»، توجها بتفاصيل عن مشروعات قال إنه ينفذها مع عدد من الأسماء المعروفة. كان من بينها سلسلة أفلام وثائقية ينتجها مع مخرج تليفزيونى معروف، ويستعين فيها بالجن للكشف عن بعض المسائل المبهمة مثل كيفية اختفاء الحاكم بأمر الله، وحقيقة مثلث برمودا. أما الأهم فهو بحث علمى لتطوير الأدوية تحت إشراف طبيب أعصاب معروف، إضافة لمشروعات ضخمة بالتعاون مع معهد الأورام، لإنتاج علاج عشبى للسرطان «ثبت نجاحه بنسبة 150%».

فى الأيام التالية، التقيت مع أكثر من ذكرهم فى حواراتنا. وبعد تسجيل لقاءاتى معهم، قررت مواجهته فى لقاء أخير. بدأت بطرح أسئلة عادية، وشيئا فشيئا كشفت مضمون اتصالاتى مع المخرج المعروف وطبيب الأعصاب الشهير. وهنا كانت المفاجأة. لم يهتز الرجل أو يتوتر. كان كتلة من الثبات.

مع كل ورقة أكشفها كان يدافع بهدوء، حتى عندما وجهت الضربة الأخيرة وقلت له إن الطبيب وصفه بأنه نصاب.

كان وقع الكلمة حادا ولكنه رد بثقة دون أن تغادره ابتسامته: «هيقول لك إيه؟ واحد ما يعرفوش بيسأله، والمشروعات دى لم يعلن عنها، وهم عارفين الناس بتفكر فيها ازاى، ومش عاوزين يجازفوا قبل ما نعلن النتايج.لازم هيقول كده».

كان الرجل تجسيدا لكلمة «القارح» كما تستخدم فى العامية المصرية لوصف النصاب الذى لا يستحى ويستحيل إحراجه.

لم تكن هذه المفاجأة الوحيدة أو الأغرب فى هذه التجربة. فى الأسابيع التالية لإتمام هذا التحقيق الذى لم يخرج للنور، رويت الحكاية لعدد كبير من الأصدقاء والأقارب. فى كل مرة أحكيها كنا نتبادل النكات والنوادر عن هذا النوع من النصابين قبل أن ينتحى بى أحدهم جانبا، ويفاجئنى بطلب رقم هاتف النصاب، لأنه يحتاج إليه فى سؤال أو استشارة!! فالجن حقيقة.. وهو فى النهاية «مذكور فى القرآن».

بدا الأمر عصيا على الفهم بعد كل ما قلته عن النصاب القارح، ولكنه كشف لى عن حقيقة غابت عنى حتى ذلك الوقت. لا يكف الناس عن تصديق النصاب لمجرد أن كذبه انكشف. النصاب يدرك هذا جيدا ويعرف يقينا أنه يستطيع الاستمرار فى النصب إلى الأبد مادام قادرا على مواصلة الكذب. فرغبة الناس فى تصديق النصاب وربما احتياجهم له أقوى بكثير من رغبته فى إقناعهم.
التعليقات