العنف والكراهية.. ووهم امتلاك الحقيقة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العنف والكراهية.. ووهم امتلاك الحقيقة

نشر فى : السبت 17 سبتمبر 2016 - 7:15 ص | آخر تحديث : السبت 17 سبتمبر 2016 - 7:15 ص
أمر مزعج ومنفر ومثير للامتعاض أن يتستر المرء بغطاء دينى أو مظلة تدعى القداسة وتلتجئ للنصوص الدينية (أو لأى فكرة أو مرجعية أخرى تمارس ذات التأثير والتوجيه) لتصدير كم هائل من العنف اللفظى (ومعلوم طبعا أنه لا يتوقف عند حد اللفظى فقط) والكراهية المقيتة ومصادرة حق الناس فى الحياة بالطريقة التى يقررون هم كيف تكون. ولعل هذا الأمر ليس جديدا على مجتمعاتنا فهو قديم قدم نشأتها ووجودها فى هذا العالم، لكن بالتأكيد لا خلاف على تأجج هذا الأمر وبروزه كالطفح على السطح فى السنوات الخمس الأخيرة، بات هذا التطرف والتعصب الأعمى وفقدان الحس الإنسانى هو الغالب والمسيطر فى كل أمورنا ونقاشاتنا وموضوعاتنا الحياتية والاجتماعية و(طبعا السياسية).

وكنتيجة منطقية وحصاد مرير لفشل الانتقالات السليمة المرتجاة من نظام إلى نظام ومن مرحلة إلى مرحلة، بتنا كمن يتنقل من سواد إلى أسود، ومن رمضاء إلى نار، وعمت كراهية غير مسبوقة فى المجتمع وبين الناس وحتى بين الأصدقاء وأفراد الأسرة الواحدة.. شاهدتُ بعينى أسرا متماسكة، كان يضرب بها المثل فى التضامن والحنو، تمزقت واشتعلت فيها نيران التعصب والانحيازات البغيضة، ووصل الأمر إلى قطع حبال المودة والتواصل والقطيعة النهائية التى لا ينتظر بعدها رجوع أو استئناف!

جذور الحكاية ببساطة تعود إلى فشل وراء فشل، ولعقود طويلة، مارسته كل الأنظمة التى حكمت هذا البلد، مجتمع يعانى من أزمات وجود حقيقية؛ يعوم على محيط من الكراهية والعنف وفرض الرأى ورفض الآخر وواحدية الرأى ووهم امتلاك الحقيقة المطلقة، ورغم كل ذلك فلا بد من إعلان أن كل شىء جميل وحلو وممتع وليس مثلنا شعب آخر!

وهم كبير اسمه الاستقرار الزائف والانسجام المزيف والتجانس الموهوم، ليس شىء من هذا على الحقيقة هكذا، والأدلة أكثر من أن تحصى.. من أول قعدة أصحاب على القهوة يلعبون الطاولة والدومينو فيختلف أطراف اللعبة على قراءة رقم أو رمية نرد فتتحول إلى مجزرة قد يسقط فيها قتيل أو أكثر (لم لا يصدقنى عليه أن يراجع صفحات الحوادث فى الصحف المصرية فى السبعينيات والثمانينيات وما بعدها).. أو أنك فى الشارع تسأل أحدا عن طريق ما أو «مواصلة» معينة فيجيبك إجابة لا تقتنع بها، فتشكره وتسير فى طريقك الذى اخترت، فينالك منه سباب ولعن بدون أى داعٍ!

فقط لأنك لم تستجب لم قال بغض النظر عن اقتناعك به من عدمه، وبغض النظر عن أنك لك كامل الحق والحرية فى أن تفعل أو لا تفعل!

وببساطة، أصبح التكفير والتحريض على القتل، والحث على الكراهية، ومحو الآخر، إحدى أدوات السلطة فى ممارسة هيمنتها وإحكام قبضتها (وأقصد هنا السلطة بكل أشكالها السياسية والاجتماعية.. سلطة الأب فى المنزل، سلطة رجل الدين على المنبر فى مسجد أو كنيسة، سلطة المدرس فى الفصل الدراسى، سلطة أستاذ الجامعة فى قاعة المحاضرات، سلطة الموظف فى المؤسسة الحكومية.. إلخ).

وليس أسهل من رمى صديقك أو قريبك أو أخيك أو ابن شقيقك بأنه خارج على الملة أو كافر أو أنه منحل أخلاقيا ولا ينبغى له العيش فى هذا البلد (وذلك أضعف الإيمان!) لأنه فقط مارس حقه فى الاختلاف ورأى غير ما ترى، وأعلن رفضه لما تقول.. تنقلب الدنيا ولا تقعد، ويعتبرك خالك أو عمك أو أى من كان أنك مارق متمرد عاصٍ تجرأت وأعلنت مخالفتك لمن هو أكبر منك! بالمناسبة ما زالت الثقافة الشعبية الجمعية توقن وتعتقد بأن «اللى أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة».. هذه القاعدة السخيفة أحد أسباب تخلفنا بلا شك!

المشكلة الكبيرة أن لا أحد يرى نفسه كما ينبغى، وقلة قليلة هى التى أوتيت نعمة النظر والفحص والمراجعة الذاتية، قلة قليلة (وبالمناسبة هذه القلة مستوى وعيها غير مقرون بمستوى تعليمها.. بمعنى أن مستوى التعليم هنا والحصول على شهادات عالية من عدمه هو المعيار فى وجود وعى حقيقى ومتزن ويمارس فعالية حقيقية وليست زائفة) هى التى تقوم بعملية مستمرة من المراجعة وإعادة النظر فى كل مواقفها وانحيازاتها وطرائق تفكيرها، قلة قليلة هى التى تمتلك شجاعة الإعلان عن الخطأ إذا ثبت لها ذلك، وتمتلك شجاعة الاعتذار عن ذلك الخطأ إذا أدركت أنها أخطأت.. لكنهم يبقون فى النهاية «قلة»!

أما الغالبية، الأكثرية، القاعدة العريضة (إلا من رحم ربى.. وأكرر إلا من رحم ربي!) فلا يرون من الدنيا إلا ما يرون، ولا يظنون أن الصواب إلا ما يقولونه ويمارسونه وعلى كل المستويات، فى السلوك الشخصى والتربية والأخلاق والعادات والتقاليد، فى الرياضة وكرة القدم والسياسة والدين.. كل شىء.. كل شىء.

الأخلاق لدى هؤلاء هى ما يرون وجوب تطبيقه، وغالبا ما تكون بفرض سلطة من أعلى أو منع مباشر أو جبر إذا أتيح له ممارسة ذلك على المستوى الفردى، لا مجال لممارسة أى اختلاف غير ما يرون، ولعل هذا الأمر يبرز بوضوح وغلبة فى الأسر المصرية البسيطة، وفى صراع الأجيال الذى صار أكبر من أن يخفى فى السنوات الأخيرة. جيل الآباء الذى تجاوز الخمسين تقريبا أحكامه الأخلاقية والاجتماعية «قاطعة» على الأجيال الجديدة من الأبناء؛ أحكام يقينة مفزعة، تتسم بالتطرف والتعميم المخل والواحدية المطلقة والعنف غير المبرر.

فى المقابل، أيضا، هناك فائض (أكرر فائض) من الغرور والتنفج والرفض لمجرد الرفض من جيل بل أجيال صغيرة أجد نفسى متعاطفا معها وألتمس لها بعض العذر، لكنى لا أقبل ممارساتها التى تتورط تقريبا فى كل ما تعلن أنها ترفضه! ترفض السلطة وتمارس هى بذاتها سلطة أخرى، تدعو للتحرر وهى تعتبر ما تقوله «دينا»! ترفع شعار «الشعب يريد» ثم تزدريه وتحتقره وتهاجمه بأقذع الألفاظ والعبارات.. ما علينا الحديث ذو شجون!

إن نجاح أى نظام سياسى مرهون بالأساس فى وضع اليد على الأسباب الحقيقية والجوهرية على التصدعات والشروخ المجتمعية التى تعود بجذورها إلى عقود طويلة مضت بل ربما إلى قرون، لكنها تضاعفت واستفحلت، فى سنوات قليلة، تنذر بخطورة مضاعفة وتأثيرات مريعة فى المستقبل القريب. البداية دائما، ولا بد، أن تكون تشخيصا سليما وقراءة دقيقة ومحايدة تخلو من التلوين والتعسف ولى الحقائق والتجافى عن الواقع والوقائع، البداية دائما تكون بالاعتراف بوجود الأزمة، لا إنكارها أو التغاضى عنها وإهمالها بالكلية، وكأن «الحياة لونها بمبى» و«كله فى السليم»!

كلمتين وبس:
«القوة وحدها ليست ضمانا للأمان.. إن الضامن الوحيد للأمان هو العدل».. نجيب محفوظ