حرب التكنولوجيا الباردة بين الولايات المتحدة وأوروبا - قضايا تكنولوجية - بوابة الشروق
الجمعة 25 أبريل 2025 6:01 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

حرب التكنولوجيا الباردة بين الولايات المتحدة وأوروبا

نشر فى : الأحد 20 أبريل 2025 - 6:15 م | آخر تحديث : الأحد 20 أبريل 2025 - 6:15 م

مع تزايد نفوذ شركات التكنولوجيا الكبرى وتحالفها مع القوى السياسية، بات الفضاء الرقمى يشهد تحولات غير مسبوقة تتجاوز المنافسة الاقتصادية لتشمل إعادة تشكيل النظام المعلوماتى العالمى. وفى ظل إدارة ترامب الجديدة، تعززت العلاقة بين السلطة السياسية وعمالقة التكنولوجيا Big Tech؛ ما أدى إلى تصاعد المواجهة مع أوروبا، التى تسعى إلى فرض إطار تنظيمى أكثر صرامةً لحماية سيادتها الرقمية، لكن هذه المواجهة لا تخلو من تحديات؛ حيث تواجه بروكسل ضغوطا أمريكية مكثفة، بجانب تأثير القوى السياسية الداخلية الداعمة للتكنولوجيا غير المقيدة. فى هذا السياق، أصبح الصراع الرقمى بين الجانبين انعكاسا لمعادلة أكبر تتعلق بحرية المعلومات، والتنافس الجيوسياسى، ومستقبل الحوكمة الرقمية عالميا.
• • •
أدت الإجراءات التنظيمية للاتحاد الأوروبى فى المجال الرقمى إلى نشوب خلافات متزايدة مع شركات التكنولوجيا الأمريكية، ومن أبرز هذه الخلافات:
أولا: تعد اللوائح الأوروبية - مثل قانون الأسواق الرقمية (DMA: Digital Markets Act)، وقانون الخدمات الرقمية (DSA: Digital Services Act)- محورا أساسيا للخلاف بين الشركات الأمريكية والدول الأوروبية؛ إذ تسعى بروكسل إلى تنظيم المنافسة الرقمية عبر إجبار الشركات الكبرى، مثل جوجل وأمازون وأبل، على الامتثال لقواعد تضمن الشفافية وعدم إساءة استغلال موقعها المهيمن. من جهة أخرى، ترى الولايات المتحدة أن هذه القوانين تستهدف شركاتها بشكل غير عادل، متهمة الاتحاد الأوروبى باتباع نهج حمائى يهدف إلى تقليص نفوذ الشركات الأمريكية دون فرض القيود نفسها على نظيراتها الأوروبية.
ثانيا: أصبحت قضية حرية التعبير على الإنترنت نقطة خلاف رئيسية بين شركات التكنولوجيا الأمريكية والاتحاد الأوروبى؛ حيث يتهم المسئولون الأمريكيون بروكسل بتعزيز الرقابة المؤسسية من خلال قوانين مثل قانون الخدمات الرقمية، التى تفرض قيودا صارمة على المحتوى المنشور عبر الإنترنت. فى المقابل، تدافع أوروبا عن موقفها مؤكدةً أن هذه التشريعات ضرورية لمحاربة خطاب الكراهية والتضليل الإعلامى، خاصةً مع تصاعد التأثير السلبى للمعلومات المضللة فى الفضاء الرقمى.
ثالثا: تثير الهيمنة الأمريكية على قطاع التكنولوجيا مخاوف متزايدة داخل الاتحاد الأوروبى؛ حيث تعتمد العديد من الدول الأوروبية بشكل شبه كلى على البنية التحتية والخدمات التى توفرها شركات أمريكية كبرى، مثل أمازون ومايكروسوفت وجوجل. ويرى بعض المحللين أن هذا الوضع يحد من استقلالية القرار الأوروبى، خاصةً فى ظل تزايد أهمية التكنولوجيا فى الجوانب الاقتصادية والأمنية. وتشير بعض التقارير إلى أن الحكومات الأوروبية تواجه صعوبة فى تطوير بدائل محلية تكون قادرة على منافسة العروض الأمريكية؛ ما يجعل القارة عرضة لمخاطر تتعلق بالأمن السيبرانى والتدخلات الخارجية.
وقد دفع هذا الواقع بعض القادة الأوروبيين، مثل الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، إلى الدعوة لاعتماد سياسة «الأفضلية الأوروبية» فى مجال التكنولوجيا، مؤكدا أن أوروبا بحاجة إلى تقليل تبعيتها للولايات المتحدة من خلال دعم الشركات المحلية وتعزيز الابتكار الرقمى. ومع ذلك، تواجه هذه الاستراتيجية عقبات؛ حيث تتهم الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبى باتباع نهج حمائى يتعارض مع مبادئ حرية السوق والتجارة العادلة. ويرى بعض المراقبين أن أوروبا بحاجة إلى التحرك بسرعة لتجنب أن تصبح مجرد «سوق استهلاكية» لصناعات التكنولوجيا الأمريكية دون أن تمتلك قدرات إنتاجية أو ابتكارية مستقلة.
• • •
ساهمت عدة عوامل فى تصعيد الخلافات الرقمية بين الولايات المتحدة وأوروبا، خاصةً بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض:
أولا: منذ عودته إلى السلطة، تبنَّى دونالد ترامب سياسة مناهضة للوائح الرقمية الأوروبية، معتبرا أنها تشكل تهديدا مباشرا للهيمنة الاقتصادية الأمريكية. وقد عيّن ترامب بريندان كار رئيسا للجنة الاتصالات الفيدرالية، وهو أحد أشد المعارضين للتنظيمات الأوروبية على أساس أنها تفرض رقابة غير مبررة على المحتوى، وتضر بالآراء المحافظة، داعيا إلى تفكيك «كارتل الرقابة».
فى المقابل، ترى المفوضية الأوروبية أن هذه اللوائح ضرورية لمنع الاحتكار وحماية المستهلكين من استغلال الشركات الكبرى لمواقعها المهيمنة. وفى هذا السياق، لعب نائب الرئيس الأمريكى جى دى فانس دورا رئيسيا فى التصعيد الخطابى والسياسى ضد سياسات الاتحاد الأوروبى الرقمية، مستغلا المحافل الأوروبية للترويج لموقف إدارة ترامب؛ ففى مؤتمر ميونخ الأخير للأمن، وجَّه فانس اتهامات مباشرة للاتحاد الأوروبى، معتبرا أن قوانين بروكسل تهدف إلى تقييد حرية التعبير، وليس فقط ضبط المنافسة الرقمية.
ثانيا: لم تقتصر المواجهة بين الجانبين على الجانب التنظيمى فقط، بل هناك مخاوف لتحولها إلى حرب تجارية رقمية مفتوحة، خاصةً مع تهديد إدارة ترامب بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 20% على المنتجات الأوروبية، ردا على ما تم وصفه بالتمييز ضد الشركات الأمريكية. وقد تمثلت هذه المواجهة فى تصعيد متبادل؛ حيث لوَّحت بروكسل باتخاذ إجراءات مماثلة ضد بعض الشركات الأمريكية التى تتجنب دفع الضرائب فى أوروبا، مثل أمازون وأبل؛ ما زاد من حدة التوترات.
ثالثا: تعد سياسات الذكاء الاصطناعى من أكثر الملفات حساسية فى الصراع الرقمى بين أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث تتبنى واشنطن نهجا قائما على الحد الأدنى من التدخل الحكومى، بينما تسعى بروكسل إلى فرض لوائح صارمة لضبط استخدامات الذكاء الاصطناعى. وقد دفع ترامب بشركات التكنولوجيا الأمريكية إلى تعزيز تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعى، متعهدا بإزالة العراقيل البيروقراطية التى يفرضها الاتحاد الأوروبى على هذا القطاع، كما يخطط البيت الأبيض لاستثمار 500 مليار دولار فى هذا المجال؛ ما يعزز التفوق الأمريكى فيه.
وفى المقابل، تحاول أوروبا تعزيز موقعها فى سباق الذكاء الاصطناعى من خلال زيادة الاستثمارات فى البنية التحتية الرقمية؛ حيث أعلنت المسئولة العليا عن الرقابة الرقمية فى الاتحاد الأوروبى «هينا فيرككونن» عن استثمار بقيمة 1.5 مليار يورو فى سبعة حواسيب فائقة لدعم تطوير نماذج ذكاء اصطناعى أوروبية تنافس النموذج الأمريكى، كما أطلقت نداءً لجذب الاستثمارات فى أوروبا خلال منتدى دافوس الاقتصادى، مشددةً على أن القارة الأوروبية متأخرة بشكل كبير فى الابتكار والتطوير. ولكن رغم كل هذه الجهود مازال الاتحاد الأوروبى يواجه صعوبة فى مجاراة الإنفاق الأمريكى الهائل فى هذا المجال.
رابعا: تصاعدت المواجهة بين شركات التكنولوجيا وبعض الحكومات الأوروبية مؤخرا بسبب مسألة التشفير والخصوصية الرقمية؛ حيث باتت الشركات الأمريكية، بدعم من إدارة ترامب، تعارض محاولات الاتحاد الأوروبى والمملكة المتحدة لفرض قيود على تشفير البيانات. وقد وصل الخلاف إلى مراحل جديدة بعد إطلاق شركة أبل، فى 4 مارس 2025، إجراءات قانونية لإلغاء مطلب الحكومة البريطانية بإدراج «باب خلفى» فى التشفير، وهو ما اعتبرته واشنطن تهديدا مباشرا لأمن البيانات وحرية المستخدمين.
وفى هذا السياق وصف ترامب القرار البريطانى بأنه توجه سلطوى شبيه بالصين. وعلى الجانب الأوروبى يواجه المشروع نفسه معارضة داخلية؛ حيث رفض البرلمان الفرنسى فى 5 مارس 2025 تمرير مقترحات مشابهة بحجة أنها تهدد أمن جميع المستخدمين وتفتح الباب أمام ثغرات أمنية كارثية. ومع ذلك، لا تزال بعض الجهات الأمنية الأوروبية تضغط باتجاه فرض قيود على التشفير لحماية الأمن القومى، مبررةً ذلك بأنه يسهل مراقبة الشبكات الإجرامية ومهربى المخدرات والتنظيمات الإرهابية، خاصةً مع تزايد اعتماد هذه الشبكات على تطبيقات مشفرة مثل «واتساب» و«سيجنال». وتكشف هذه المواجهة عن صراع أوسع بين نموذج أوروبى يسعى إلى تنظيم الفضاء الرقمى، ونهج أمريكى يفضل الحد الأدنى من التدخل الحكومى فى الابتكار؛ ما يزيد من تعقيد العلاقات بين الجانبين فى هذا الملف الحساس.
• • •
ختاما، أصبحت المواجهة بين أوروبا وشركات التكنولوجيا الأمريكية أكثر من مجرد صراع تنظيمى، بل باتت تمس سيادة الفضاء الرقمى الأوروبى والمبادئ الديمقراطية التى تؤمن بها أوروبا. فى ظل التحديات المتزايدة، تجد أوروبا نفسها أمام خيارين: إما الخضوع لنفوذ الشركات الرقمية الكبرى، وإما إعادة بناء استقلاليتها الرقمية من خلال سياسات أكثر جرأةً. ومع استمرار الضغوط الأمريكية، يبقى الحل الأمثل هو تعزيز الابتكار الأوروبى المحلى والاستثمار فى بنية تحتية تكنولوجية مستقلة تقلل من الاعتماد على المنصات الخارجية.
وكخلاصة، يمكن القول إن الأوروبيين مقتنعون بأن استعادة السيادة الرقمية ليس مستحيلا، ولكنه يتطلب إرادة سياسية واستراتيجية استثمارية طويلة الأمد.

نوار الصمد

مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

النص الأصلى

قضايا تكنولوجية قضايا تكنولوجية
التعليقات