يخيل لى أن أساتذة الكليات النظرية، من آداب وحقوق وإعلام وعلوم سياسية واقتصاد، يتحسسون مسدساتهم أمام هجمة متواصلة تطول شرعية تخصصاتهم العلمية، وقد شعرت بالأسى أن كثيرًا منهم كتب مقالات أو تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعى يدافع فيها عن العلوم الإنسانية، ويبرز أهميتها، ويتأسف على المطالبة بإلغائها أو تقليصها.
هناك ثلاثة اعتبارات فى هذه القضية. الاعتبار الأول: هى تزايد أعداد من يُقبلون على دراسة العلوم الإنسانية، وكثير منهم من النساء، بما يشبه ظاهرة تأنيث العلوم الاجتماعية، وهى حالة ليست وليدة اليوم، لكنها قائمة منذ عقود. ولا تستوعب سوق العمل هذه الأعداد الغفيرة التى تتخرج فى الكليات النظرية، كما لا تستوعب أيضا كثيرًا من خريجى الكليات العملية، وإن كان بنسبة أقل من نظرائهم فى التخصصات النظرية. الاعتبار الثانى أن استخدامات العلوم الإنسانية توارت، وضعفت، ولم يعد الواقع يحتاج إليها بإلحاح رغم أهميتها. ويعبر ذلك بالتأكيد عن أزمة الواقع أكثر ما يعبر عن أزمة العلوم الإنسانية. أما الاعتبار الثالث فهو ضعف مستوى خريجى الكليات النظرية، على نحو لا يجعل الغالبية العظمى منهم تعمل فى مجالات بحثية أو تشارك فى وضع سياسات عامة أو تدرس ظواهر اجتماعية معمقة. إذ بينما لا يعطى الواقع مساحة حركة للباحث الاجتماعى، فإن الأخير ذاته يفتقر إلى المعارف والمهارات التى تمكنه من دراسة الواقع، واقتراح حلول للمشكلات. والدليل على ذلك ما ذكره أحد أبرز أساتذة الاجتماع فى مصر، الدكتور سعيد المصرى، من أن علم الاجتماع أهمل دراسة المجتمع الإسرائيلى من الداخل، رغم أن الجانب الآخر نجح فى إجراء دراسات على مصر. قد يتمسك البعض بسلاح المقاطعة، ولكن هل المقاطعة تحول دون دراسة معمقة للمجتمع الإسرائيلى من الداخل، والوقوف على تكوينه، وما به من انقسامات حادة؟ وإذا كنا نرى فى إسرائيل دولة جوار ــ بلغة أنصار السلام ــ، ودولة صراع بالمنطلقات القومية والإسلامية، ودولة مُحتلة لأرض عربية من منظور عروبى، أفلا يكفى كل ذلك لتوجيه الاهتمام لدراسة المجتمع الإسرائيلى؟
ما أريد قوله أن أزمة العلوم الإنسانية لا تكمن فقط فى أن هناك من يتحرش بها، ويريد أن يقزمها، ولكن فى أمور متداخلة، بعضها يخص واقع المجتمع، وبعضها يخص مساحة الاهتمام والحركة الممنوحة لها، وبعضها يتصل بضعف قدرات غالبية خريجيها، وضعف مستوى تعليمهم، واحتياجهم الملح إلى المال للإنفاق على أنفسهم، وعلى أبحاثهم.
بداية الاهتمام بالعلوم الإنسانية ليست فى الدفاع عنها، وانتقاد من يهاجمها، ولكن فى إيجاد أدوار لها، والإفادة منها، والاعتماد عليها فى فهم وتحليل المجتمع، والاستناد إلى خلاصات الأبحاث الاجتماعية فى وضع السياسات العامة. إذا حدث ذلك سوف يتحرك الأمران الآخران إلى الأمام، سوف يكتسب دارس وخريج العلوم الإنسانية الثقة فى نفسه عندما يجد طلبا عليه، وأيضا سوف يسعى إلى تطوير قدراته، وتدب الحيوية فى شرايين الدراسة الأكاديمية فى مجال العلوم الإنسانية.