قالوا وسمعت - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قالوا وسمعت

نشر فى : الجمعة 23 سبتمبر 2016 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 23 سبتمبر 2016 - 10:10 م
يشارك المواطنون الأمريكيون فى استبيان سنوى ينظمه واحدٌ مِن المراكز البحثية المتنوعة هوPew Research Center، ويتطرق الاستبيان إلى معدلات القراءة التى باشرها المواطنون خلال العام. أُعلِنَت النتائجُ هذه المرة وتداولتها عديدُ الصحف والمجلات الُمهتمة بعالم الكتب والطباعة، فكانت تقريبًا مُتوقعه. ثلاثة أرباع المشاركين قرأوا على الأقل كتابا خلال العام المنصرم، وربعهم فقط لم يقرأ أى كتاب.

لم تتغير المعدلات كثيرًا عن ذى قبل، لا طفرات بعينها ولا قفزات غير مفهومة، مع ذلك تظل فى رأيى مُدهشة.

أظن أن النسبة ــ مع الرأفة وحسن الظن ــ معكوسة بالنسبة للمصريين وربما كانت أقل، أشك أن ربع المواطنين المصريين قرأ كتابًا كحدٍّ أدنى فى السنة الماضية، بل أشك أن ربع المصريين قرأ جريدةً قراءةً مُتَمَعِّنة ولم يمر بها مرور الكرام.

لا شكّ أن الحال غير الحال، فالمصريون مَهمومون هَمًّا لا يبارحهم، والكتاب صار سلعة باهظة الثمن، وتوفير ما يسدُّ رَمَقَ اليوم لا يترك وسعًا أمام كثيرين ليمارسوا رفاهة القراءة.

المواصلات غير المواصلات والمساحات التى يمكن الاختلاء فيها بعيدًا عن الضوضاء تكاد تنعدم لدينا، وربما كانت نسبة الثلاث أرباع صادقة إذ استعملناها للدلالة على الأمية، فخريجو المدارس والجامعات يقرأون بصعوبة ويكتبون الطلاسم.

تلك عواملٌ تفسدُ فى مُجملِها رغبةَ المطالعة وتقضى على محاولات التركيز وهى خارجة أكثرُها عن الإرادة، لكن ثمّة عاملا إضافيًّا وإراديًّا يدعمها فى الوقت ذاته، عاملٌ يرتبط بطبيعتنا وبالعادات المتأصّلة لدينا. أظننا نميل ــ وذاك ميل غير موغل فى القدم ــ إلى أن نسمع لا أن نقرأ.

ثقافتنا سماعية بالدرجة الأولى، نتلقى معلوماتنا وأخبارنا عبر الأذن ولا نحبّذ كثيرًا استخدام النظر. السمع أسهل وأبسط وبذل الجهد فيه أقل، وهو مُحاطٌ فى العادة بمؤثرات حركية وبصرية تبعث التشويق والإثارة مهما كانت المعلومة التى يتم تلقيها ثقيلة ومزعجة.

***
أذكر فى أسفٍ وعلى استحياء كم مِن مَرة تواصل معى صحفى أو صحفية رغبة فى محاورتى حول كتاب جديد. السؤال الأول الذى غالبًا ما أجعله الأخير هو: «يا ريت تقولى لنا الكتاب بيتكلم عن إيه؟». قليلا ما صادفت محاورًا قرأ واهتم وحلَّلَ وحين أصادف امرأةً أو رجلا فعل تكون سعادتى غامرة وشكرى جزيلا صادقًا لا أخفيه.

ربما ونحن شعبٌ انفعاليٌّ بطبعه، يفتننا الظاهرُ ويأسرنا، لا نجد فى الكلمات المطبوعة ما يَسُرّ، على عكس ما نجد فى الكلمات المسموعة؛ إذ هى مصحوبة بحركات الوجه وتلويحات الذراعين وتنوُّع نبرة الصوت، وكلها عوامل جذب. نتلقَّف الكلامَ مِن صائِغه ونصدقه ما أقنعتنا تلك العوامل وأمتعتنا، ولا شكّ أن المكتوبَ ــ على تنوع أوصافهـ ـ برىءٌ منها، يبقى مُحايدًا لا يحاول الاستيلاء على قارئه إلا مِن خلال المضمون الذى يحويه.

***
رغم الخفّة واللطافة وسرعة التلقى وبساطته، لا تترك الثقافة السماعية فى عديدِ الأحوال فرصة للتثبت مِن المعلومة، ولا تسمح بمراجعتها وتعميقها، ولا بتقصّى أصلها وفصلها، لا أتحدث طبعًا عن معلومات مُوثقة ومُسجّلة صوتيًا، بل عن معلومة مَنقولة مِن فمٍّ إلى فمٍّ إلى عديدِ الأذان. نتبادلها ولا نعرف إلا فيما ندر مصدرها، وما أكثر ما نستخدم فى أحاديثنا فعل القول بينما يبقى فاعله مجهولا: بيقولوا، بيقول لك، قالوا. يُسأل صاحبُ المعلومة عن المصدر فيأتى الردّ: «سمعت».

معلومات تُستَقى غالبيتها مِن الهواء؛ لا جذور لها ولا أقدام، وبين «قالوا» و«سمعت» و«بيقولك» يتوه الفاعل ويبقى غامضًا لا يمكن الإمساك به ومناقشته فيما أدلى به، يبقى الضمير الدال عليه حاضرًا فيما هو نفسه غائبٌ، لا نعرف أبدًا هويته ولا مدى مصداقيته.

***
عجيب أمرنا ونحن حضارة آلاف مِن الأعوام، قضينا كثيرها وربما أغزرها علمًا وتألقًا فى الكتابة. الكتابة على الأحجار وعلى البردى وعلى كل ما أمكن الوصول إليه.

سجلنا كل شىء كتابة، حفرنا ونقشنا ومحونا وأعدنا تدوين الأحداث بدأب لا يفتر ولا ينتهى وبذلنا جهدًا ضخمًا فى حماية ما فعلنا وسعينا إلى صونه من العابثين، ولما حدثت القطيعة المعرفية والتاريخية الكبرى لم نتمكن من قراءة ما كتب أجدادنا، قرأه الغرباء وعلمونا قراءته، لكننا مع ذلك وحتى الآن، لا نحب أن نقرأ.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات