الصفر الآمن - عمرو خفاجى - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 10:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصفر الآمن

نشر فى : الإثنين 23 نوفمبر 2009 - 11:43 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 24 نوفمبر 2009 - 2:04 ص

 
باريس 1998: كعادتها مدينة ساحرة وأنيقة ومتألقة، وعاصمة مثقفة تعشق الفنون الرفيعة، تحتفل بالموسيقى بعيد خاص، وتحتفى بالفن التشكيلى فى كل الأيام وتعتز بالأوبرا، وجمعيتها الوطنية (ما يقابل مجلس الشورى) لا تغفل عن الاهتمام باللغة الفرنسية، ولا تترك لفظة شاردة أو واردة إلا وتتعامل معها بنقاش مميز وبعقول صافية فقط متحيزة للغة التى تفكر بها..

فى هذا العام (1998) فقط كان هناك أمر جديد يشغل النخبة والحركات الفكرية وجماعات البحث وأبناء السياسة..

كانت باريس مشغولة وقتها بما نطلق عليه نحن الاحتفال بمرور 30 عاما على حركة الطلبة أو مظاهرات ١٩٦٨ الشهيرة والتى اجتاحت معظم العواصم النابضة بالحياة (القاهرة كانت من بين هذه العواصم)، بينما كان الفرنسيون يحتفلون كما ينبغى أن تكون الاحتفالات، فالأمر كان حسابات بل وحسابات عسيرة لما جرى قبل 30 عاما، وماذا قدمت هذه الاحتجاجات لفرنسا، وهل بدلت من الأوضاع شيئا أم لا؟! وامتدت الحسابات إلى أبطال هذه المظاهرات وأين ذهبوا؟! وأذكر جيدا ما جرى على إحدى المقاهى من نقاش ساخن حول أحد أبطال هذه الأحداث، والذى أصبح مسئولا مهما بالدولة الفرنسية، ويشغل طوال الوقت مناصب رفيعة (من بينها نائب رئيس البرلمان الأوروبى) وأن ما فعله هو خروج كامل عما كان يدعو إليه الطلبة ويتظاهرون من أجله.

بصراحة كان الحساب عسيرا، وتعسفا من وجهة نظرى، وحينما حاولت أن أبدى اعتراضا على النقاش وأسلوبه وكيف يحاكم أحد الأبطال الذين دفعوا العالم للتغيير، كان حسابى أنا عسيرا وحادا بما لا يليق، بأصدقاء تجمعهم روابط ضعيفة لا يلتقون إلا كل عدة سنوات مرة أو اثنتين، وطبعا أكملت النقاش أو الحساب العسير مستعما فقط، لا حول لى ولا قوة وأنا أسمع تأنيبا شديدا للبطل، الذى كنت أتصوره.. عن ثروته وملابسه وسلوكياته ومواقفه التى كانت ١٩٦٨.

باريس 1968: مظاهرات الطلبة كانت تحتج على ما آلت إليه البلاد من أوضاع سيئة حكومة ومعارضة، لذا كانت أشهر شعارات هذه الحركة وهتافاتها: متى يصل الخيال إلى السلطة؟.

نيويورك 1999: فى العام التالى كانت نيويورك على غير عاداتها فى حالة احتفال شديد وبهيج باستقبال الألفية الجديدة..

المدينة جميعها تشع بالضوء، واجهة المحال تنبض ببضاعة مميزة، التجار خفضوا كل الأسعار حتى يستطيع الجميع أن يحتفل، وفى الميدان الشهير «تايم سكوير» شاشات التليفزيون العملاقة تنقل الأحداث من كل مكان، والآلاف يغنون ويرقصون بكل اللغات والحركات.. فهناك عدة أيام، ويأتى العام المميز الذى تنتظره البشرية عام 2000.

نيويورك مدينة كوزمو ــ بوليتانية تجمع بين أنحائها المترامية الأطراف والمزدحمة عشرات الجنسيات ومئات الأفكار وآلاف الاتجاهات مدينة معنية بالسياسة الدولية، لوجود مبنى إدارة العالم (الأمم المتحدة) ومعنية بالأموال فهى حاضنة الوول ستريت شارع الأسهم والسندات والبورصة الأشهر فى العالم.

وفى نيويورك أيضا حى إىطالى يعرف بـ«الفلج» يرتاده المثقفون وهناك على الضفة الأخرى من تايم سكوير من الغناء والرقض وبهجة الاحتفالات كان البعض قد قرر محاسبة القرن الماضى حسابا عسيرا قبل أن يدخلوا الألفية الجديدة فقد قرروا دخول قرن جديد وبين أيديهم كشف حساب لما جرى ولما فعله الآباء والأجداد. فى مقهى صغير وقف بعضهم وسط ازدحام من المقالات والموضوعات الصحفية، التى نشرت على مدى خمسين عاما..

مقالات تتحدث عن كيف سيكون العالم فى هذه اللحظة عام 2000. مقالات تصور السيارات الطائرة والطعام المضغوط فى كبسولات، والملابس التى تشبه أزياء رواد الفضاء، ومعظم المقالات والكتابات كانت من صحف النصف الأول من القرن العشرين..

وبجوار هذه القصاصات التى تحاكم قرنا على وشك الرحيل، مقالات حديثة تسخر مما جرى وكيف أن كل ما تخيلوه أو قالوا إنه سيحدث.. لم يحدث، كانوا يحاكمون خيال الآباء والأجداد، خيال لم يرشدهم إلى المستقبل بدقة، خيال عجز عن فهم ما جرى أو عن تفسير ما قد يحدث لأبنائهم وأحفادهم، وكانت أكثر المقالات سخرية مقالة تتحدث عن ثورة الاتصالات، التى لم يتوقعها أحد..

تليفونات وكمبيوتر وإنترنت فقد كان الأجداد والآباء مشغولين فقط بالسيارات التى تطير وبالأكل المضغوط، أما ما ينفع الناس فكان بعيدا عن مرمى الخيال.

نيويورك 2001: الجميع غاضبون مما حدث فى 11 سبتمبر، دون أن يحول الغضب عن التمسك بسؤال من يحكم لماذا حدث ما حدث؟! وحساب الذين يسيطرون على الحكم ومجريات الأمور عما حدث.

القاهرة 2009: الأكيد أن القاهرة فى هذا العام وفى جميع الأعوام السابقة لا تعرف الخيال كما لا تعرف الحسابات أو المراجعة، لا تعرف ما عرفته باريس، ولا تسعى لأن تكون مثل نيويورك قوية وغنية، وإذا كانت هناك قدرة خاصة فى باريس ونيويورك على محاسبة الخيال، فإن القاهرة لديها قدرة خاصة على عدم محاسبة الواقع وتجاهل كل ما يحدث، بل تخرج دعاوى واضحة لعدم حساب الكبار، وفى مقدمتهم رئيس الدولة، وهى الدعوة التى انطلقت مؤخرا باسم مهذب ورقيق «الخروج الآمن»، وبالتالى إذا كانت هناك فكرة لعدم محاسبة شخص ما، فإن ذلك سيتبعه عدم محاسبة للدوائر التى من حوله وكانت تشاركه الحلم.

وبما أننا لا نملك أيا من نواصى الخيال، ولا نفكر الآن الواقع الذى نقف عليه، فيكفى فى هذه المرحلة ونحن فى بداية الدورة البرلمانية الأخيرة لهذا المجلس «مجلس الوطنى وكتلة الإخوان وشراذم المعارضة المستكينة» أن نحاول محاسبة حكومة الحزب، وحزب الحكومة، وكلاهما يملك تقريبا عمرا يوازى عمر المجلس، فالحكومة تسبقه بعام، والفكر الجديد للحزب يسبقه بعامين، وينبغى ألا تمر هذه الدولة دون إعلان كشف حساب لكليهما، للحزب وللحكومة، على الأقل حتى ونحن نستعد لاختيار مجلس جديد العام المقبل أن تكون لدينا عادة الحساب والمراجعة للشئون المهمة والعامة فى حياتنا.

فى مظاهرات الطلبة 1968، كانت قورة على النكسة وخرجت القيادات التى اعترضت فى الستينيات لتعثوا فسادا فى السبعينيات والثمانينيات «نموذج د. عبدالحميد حسن الوزير والمحافظ» دون أن يناقش أحد أو يحاسب، ما حدث مثلما فعلت فرنسا، ومصر فى نهاية عام 1999، وقبل أن تستقبل العام الأشهر عام 2000، كانت قد نسيت أصلا خيال أو إسهامات الآباء والأجداد باعتبارهم كانوا يعيشون عصورا بائدة مثلما تحدثنا كتب التاريخ المدرسية انشغلنا فقط بأزمة «الصفر» فى لغة الكمبيوتر تنتظر حلا من الغرب، وتناسينا أصلا أننا الذين اخترعنا هذا الصفر للحضارة البشرية.

لكننا للأسف الشديد لم نستخدمه كقيمة مضافة تحث على تقدم العلم، بل اعتبرناه القيمة التى نملكها ونحصل عليها دائما فى جميع مناحى حياتنا، وكأنه «الصفر الآمن» الذى نعتبره قيمة إنجازاتنا، إلا استثناءات قليلة هى التى تصر أن تمنحنا بارقة الأمل، وأن هناك ضوءا ولو شحيحا سيظهر فى نهاية النفق المعتم.

القاهرة 2009: بلا خيال وبلا حساب فقط صفر كبير وسط استثناءات شحيحة علينا تحيتها طوال الوقت، وكأننا نشعل موقد بداية نهضة ننتظرها منذ ثلاثين عاما.

عمرو خفاجى  كاتب صحفي وإعلامي بارز
التعليقات