اعتزال الفتن والانحياز إلى الحق - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اعتزال الفتن والانحياز إلى الحق

نشر فى : الإثنين 24 أبريل 2023 - 9:25 م | آخر تحديث : الإثنين 24 أبريل 2023 - 9:25 م
عادة لا أحب حديث الفتن، ولا أنكأ جرحا أراد الله له أن يندمل، لكنّ أحدا لا يجد نفسه، ولو مرة فى العمر، فى مجلس يثير قضية ما، تحمل فى ثناياها خلافا حادا بين فسطاطين أو أكثر من الناس، بما جرت العادة على وصفه بالفتنة، نظرا لما تجره من بلايا الاستقطاب والتشرذم وأحيانا التناحر والاقتتال، ولما يكتنفها من خلط وتفاصيل مشوّشة تؤدى إلى صعوبة بالغة فى التمييز بين الخطأ والصواب.
وإذا كان الكثير من الخلافات التاريخية أو المعاصرة سواء ما كان منها على أساس عقائدى أو سياسى أو ثقافى من أى نوع، يمكن أن يسمّى بالفتن، فإن جُل الخلافات العميقة ليس كذلك، والحق فيها أوضح من الشمس فى كبد السماء، من ثم فإن اعتزالها ليس بالضرورة هو الحل الأمثل للتعامل معها، إن أريد لها أن تنتهى أو تهدأ حدتها يوما ما، أو فى القليل ألا يوقظها أحد من ثباتها عبر مقال أو مؤتمر أو عمل درامى، هذا بفرض أنها هدأت وليست مشتعلة بالفعل وعلى مدى الساعة على صفحات الإنترنت وفى ميادين الصراعات الملتهبة على الأرض، لكن الغالبية الواعية من أصحاب الرأى قررت أن تتجاهلها!.
والأصل فى الاختلاف أو الخلاف أن يعكس حالة التنوّع الثقافى المحمود مهما انقسم عليه الناس، وألا يؤدى بأصحابه إلى محاولة الانتصار ولو على أشلاء الطرف الآخر. كما أن الاعتزال هو قرار واعٍ صادر بعد دراسة وعلم وفحص لجوانب الموضوع، وليس محض إهمال وإسقاط أو بالعامية الدارجة (تكبير دماغ)! وحتى يصل الإنسان إلى هذا القرار المدروس، يتعيّن عليه أن يفهم ويقلّب المسألة على مختلف وجوهها، ثم يكوّن عقيدة تجاهها، أو يعجز دون ذلك بعد مشقة فى البحث، وهذا لا يحدث حال انسداد قنوات الوعى والتدقيق، أو امتناع المجتمع عن تغذية العقل الناقد عوضا عن العقل المنقاد، أو حال صناعة الفرد الإمعة الذى يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ...
• • •
يجدد البعض جراح فتنة «خلق القرآن» على خلفية عمل درامى يتناول حياة الإمام الشافعى، رغم أن الله قد وقى الإمام نفسه شر تلك الفتنة، فانتقل إلى رحمته تعالى قبل أن تستعر. ولم يخلُ عمل فنى يخاطب العامة، يذكر سير الخليفة المأمون أو الإمام أحمد بن حنبل أو غيرهما من الأعلام، دونما التعريج على تلك الفتنة المؤسفة. وكثيرا ما يحمل العمل الفنى للمشاهد رأى المؤلف فى هيئة انحياز إلى طرف من أطراف الخلاف، متوهّما أنه يستطيع حسمه بمجرد إبرازه وتلميعه لرأيه فى القضية على نحو يسيغه المشاهد.
كذلك سمعنا عن عمل درامى يتناول حياة معاوية بن أبى سفيان، لم تتسع له شاشات الفضائيات خلال شهر رمضان المنقضى، وقد تردد حول أسباب ذلك الحجب عدة تفسيرات منها ما يعزيه إلى مسائل فنية ومالية، ومنها ما يرجّح الرغبة فى عدم إثارة مسألة الفتنة الكبرى، التى بدأت وقائعها فى نهاية حكم الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وانقسم على إثرها العالم الإسلامى إلى يومنا هذا بين عدة فرق ونِحَل. لكن تلك الوسائط فضلا عن منابر المساجد لا تصلح لتناول هذا النوع من المسائل الشائكة، التى تستلزم الحوار لا التوجيه أو الإرشاد أو الحديث فى اتجاه واحد. كذلك الطريقة التى تثار بها تلك الموضوعات يعوزها خبراء وعلماء على دراية بتركيبة المجتمع ودرجة استعداده وتأهيله لتناول القضايا الشائكة. بل إن إعداد المجتمع على أساس من جودة التعليم والتثقيف هو شرط ضرورى وسابق على إثارة أى مسائل خلافية، ومع ذلك تظل بعض المسائل مندوبة إلى مجالس خواص الناس دون عامتهم، وتلك سنة الله فى كل الأمم. وقد كان لشيخ الأزهر الراحل الدكتور عبدالحليم محمود تجربة رائدة رائعة فى التقريب بين المذاهب، لم تكن لتنشأ إلا فى بيئة أزهرية واعية تقدّر الاختلاف وتنبذ التعصّب، لكن التجربة لم يقدّر لها الازدهار والتعميم بعدما ظهر التعصّب فى البر والبحر.
وإذا كان الغالب على مذاهب فقهاء عصرنا الحديث هو عدم الاصطفاف إلى أى من أطراف الخلاف فى مسائل الفتن باعتبارها صارت ضربا من الماضى، فإن خطايا عدة ترتكب باستمرار تحت مسمّى اعتزال الفتن والتغافل عن أحداثها، وخطايا أكبر ترتكب بسبب التهافت عليها وخوضها بمبدأ راسخ ينطوى على التعصّب ورفض الآخر وسلبه أى حق فى مخالفة الرأى. الاعتزال وإن كان عن وصية نبوية مشرّفة، فإنه يؤتى أحيانا فى غير موضعه، فيرى الشخص نفسه أمام حقيقة نجلاء، شاهدا على اختلال موازين العدل وانتهاك الحرمات من قبل فئة من البشر، ثم يقرر ألا ينحاز ولو بقلبه إلى الفئة الأخرى إيثارا لمبدأ اعتزال الفتنة! وإذا كان ذاك الفعل المشين ينطوى على خرق واضح لجوهر الوصية النبوية ومقصودها، ولعصيان أمر الله تعالى فى قوله «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» فإنه يحرم كذلك الأجيال الناشئة من تكوين عقيدة صحيحة على أساس التمييز بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وهى المبادئ المعيارية التى تؤسس عليها الضمائر السليمة وتستقر بها قواعد الأمم والحضارات.
كذلك احتجاج البعض فى اعتزالهم أو قل تغافلهم التام عن القضايا الخلافية، بأن تلك القضايا قد صارت تاريخا وأن أى موقف معلن منها موضوعه شخصية راحلة أو مسألة مستعصية هو موقف عبثى، يعد مغالطة واضحة لا تخلو من حرمان بيّن للأجيال الحاضرة والمقبلة من حقها الأصيل فى التعلّم والاستفادة والفهم من عبر التاريخ، وبناء الشخصية الواعية على أسس من رفض الظلم والانحراف بكل أشكاله. البون شاسع إذن بين الكسل والإهمال من جهة وبين إيثار السلامة بترك الخلاف واجتناب الفتن من جهة أخرى، فالأولى هى حال الجهلاء والسفهاء، والثانية حال أهل الحكمة الذين ارتقوا إليها عن علم وفهم وتدبّر. تخيّلوا معى أن الألمان قد تركوا مسألة الانحياز أو معاداة النازية للمزاج الشخصى، ولم يصنعوا منها موقفا وطنيا جامعا وضعوه أساسا لألمانيا الجديدة (سواء الغربية أو الاتحادية من بعدها) كما أن ذلك الموقف مبناه العلم والمعرفة والوعى بمخاطر الفكر الشمولى على البشرية كلها وليس الحشد والتنميط وتصنيف الغير.
كذلك تخيّلوا معى لو أن أمة الإسلام انتصرت لضحايا المظالم التاريخية، ولو وقعت على أيدى شخصيات تمتّعت بقداسة وتنزيه مختلق موضوع عبر أجيال، ما أنزل الله به من سلطان، كيف كان ذلك ليؤثّر فى وحدة الصف وتخفيف حدة الخلاف بين الفرق والمذاهب وإعلاء صوت العقل على ما سواه من تعصّب أعمى؟. وقديما قيل «الحق حق فى ذاته لقول الناس فيه» وقيل أيضا «يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال». بل تخيلوا معى لو أن معتزلى الفتنة الكبرى من وجهاء الصحابة والتابعين فى زمن معركتى الجمل وصفّين قد اتخذوا موقفا آخر مبناه المنهج الإلهى فى السعى وراء الإصلاح بين الفئتين أولا، ثم الانحياز الواضح ضد البغاة ولو بقتالهم حتى يعودوا إلى الصواب، ثم السعى لإتمام الصلح، كان ذلك أقمن بكتابة تاريخ مختلف لحضارة المسلمين، بما يترتب عليه من سنة حميدة يقاس عليها حتى اليوم فى إنصاف الحق ولو بثمن باهظ عوضا عن التغافل والترك بدعوى الاعتزال.
• • •
لا أفهم كيف يكون إعمال القتل فى أهل المدينة من الصحابة والتابعين ثلاثة أيام أمرا قابلا للرأى، أو فتنة تستعصى على التقييم! أو أن قتل آل البيت والتمثيل بجثة سبط رسول الله عملا من أعمال السياسة يحتمل الحياد بشأنه من قبل مسلمين أمرهم الله أن يصلوا على آل رسوله الكريم! وقال تعالى «قلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»... أو أن استخدام صدام حسين للسلاح الكيماوى فى محاربة فئة من شعبه مسألة خلافية!... بل لا أفهم كيف تطهى جماجم الرجال ويدخل بزوجاتهم قبل عدتهن هو عمل لا نبرأ من أصحابه مهما بلغوا من مكانة!... والأمثلة كثيرة على جرائم حرب وأطماع منحرفة تم تصنيفها فى خانة الفتن حتى تظل ملتبسة حمّالة أوجه، ظنا من البعض أن ذلك أقرب إلى اتقاء شرّها، لكن التاريخ يخبرنا بخلاف ذلك، يخبرنا أن المظالم التى لا يرتد الحق إلى أصحابها تعظم فى النفوس وتورث للأجيال وتفتح أبوابا للخرافات والضلالات وتتسع بفعلها هوة الشقاق بين أبناء العقيدة والجنسية الواحدة، حتى يكون للغرباء والأعداء (أيضا) منفذ إلى صدورهم وقربى من دونهم.
لا يفهم من المقال أنى أنهى عن خلق وآتى بمثله، عبر تقديم موقف من قضايا وصفت بالفتن وإقصاء أى موقف يعارضها، كما لا أحب أن يفهم أنى ضد اعتزال الفتن على إطلاقه، بل فقط أدعو إلى عدم إخفاء رءوسنا فى الرمال، وتقديم رؤى منصفة لقضايا وشخصيات التاريخ، وترك الحكم عليها لعقلية ناقدة يتم إعدادها بضمير بعيدا عن التزييف والإملاء. كما أدعو إلى بناء موقف الاعتزال على دراسة وتقييم، ونبذ الحياد فى القضايا التى يكون فيها ذلك الموقف خذلانا للحق، بعدما يتبيّن لغالبية الناس المنزّهين عن الأهواء وغير الطامعين فى الدنيا على حساب الرشاد.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات