المعلومة الغائبة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المعلومة الغائبة

نشر فى : الجمعة 24 يونيو 2016 - 8:40 م | آخر تحديث : الجمعة 24 يونيو 2016 - 8:40 م
ليست تلك هى المرة الأولى التى ترفع الولايات المتحدة الأمريكية الحظر عن إحدى الوثائق بالغة الأهمية التى تتعلق بممارسات وكالة المخابرات المركزية، بحيث تصبح مُتاحة للعامة.

الوثيقة الأخيرة التى ظهرت الأسبوع الماضى تتحدث عن مُساهمة الأطباء العاملين بالوكالة فى تقديم معلومات قيمة وفعالة، ساعدت القائمين بالتحقيقات والاستجوابات داخل المواقع السوداء على تعذيب المعتقلين، و«المواقع السوداء» تعبير أُطلِقَ على السجون السرِّية الواقعة خارج نطاق الأراضى الأمريكية، والتى تكاثرت ما بعد أحداث الحادى عشر مِن سبتمبر.

التفاصيل المُتاحة مُرعبة، حتى لمَن عَمل مع ضحايا التعذيب على مدار سنوات عديدة، فالأمر لا يصبح أبدًا معتادًا ولا أقل إثارة للامتعاض والتقزز والغضب. هؤلاء الذين يظنون أنهم مُتحَكِّمون فى كلِّ شيء ومُمتَلِكون الآخرين، لا يكُفون عن ابتكار طُرق الإيذاء، هم أيضًا يجودون ويتمادون فيها كلما لاحت الفرصة أمامهم.

***

تناقلت وسائل الإعلام وصفًا لما سُمِّيَ بصناديق العزل، تلك الصناديق التى لا تكفى سوى لجلوس المُعتَقَل القرفصاء، حيث يُجبَرُ على قضاء ساعات طِوال فى وضعٍ شديدِ الإيلام. هذه الصناديق قد تستطيلُ قليلا ويتراجعُ عُمقُها لتُحاكى ــ كما ذكرت الوثيقة ــ تلك التوابيت التى توضَع فيها أجساد الموتى. تناقلت وسائل الإعلام أيضًا وصفًا لأحد أساليب التغذية القسرية، حيث يتم الدفع بأنبوب يخترق الأمعاء الغليظة. نعرف أن الإجبار على تناول الطعام هو فى حد ذاته وسيلة تعذيب، أما الأنبوب الذى نتحدث عنه هنا، فهو إمعان فى الإذلال وكسر الكرامة والحَطِّ مِن شأن المُحتَجَزين.

***

قبل رفع السرية عن هذه الوثيقة بفترة قصيرة، أصدرت لجنة منبثقة عن مجلس الشيوخ الأمريكى تقريرا مُفَصَّلا، يدرس برنامج الاحتجاز والاستجواب الخاص بوكالة المخابرات المركزية. حصلت على نسخة مطبوعة مِن خلاصة هذا التقرير خلال رحلة سريعة إلى نيويورك، إذ حصلت على حق النشر دار أمريكية مستقلة، وقد جاءت هذه الخلاصة فى كتاب ضخم مكون من خمسمائة وتسع وأربعين صفحة، ليصبح المحتوى المذهل فى متناول الأشخاص العاديين، ومن الجدير بالذكر أن القارئ يمكنه أن يطالع ضمن ملحقات الكتاب الكثيرة نماذج لممارسات مشينة تحت عنوان: «شهادات غير دقيقة قدمتها وكالة المخابرات المركزية للجنة».

رغم ما أثارته الوثيقتان لديّ من وجع وازدراء لا حدود لهما ولا شافٍ منهما، فقد انتابنى شعور بالإعجاب لم أكن أبدًا أحبذه. إعجاب بالضوابط والتقاليد المتبعة فى الإفصاح عن المعلومات، تلك التى جعلت الكتاب يصل إلى يديّ وإلى أيدى الكثيرين، دون قيد ولا استثناء.

مع التسليم بالتَوَحُّش المُفجِع ومع الاحتفاظ بمُفردات الشجب والإدانة التى تحويها المعاجِم جميع والتى تدور فى الرءوس دون أن تخرج إلى الأوراق أو تجرى على الألسنة، تبقى حقيقة لا يمكن غضّ البصر عنها: هناك مَن يراقب ويراجع، وفى بعض الأحيان أيضًا مَن يُحاسِب. هناك نظام يقضى بتمكين المواطن مِن معرفة ما يدور، ومِن تحديد مواقفه إزاء النظام الحاكم وسياساته على أُسُس مِن الشفافية والوضوح.

***

عدت بالذاكرة إلى سنتين ماضيتين، حين رحت أبحث عن مَتن التقرير الصادر عن واحدة مِن لجان تقصى الحقائق التى تشكلت ما بعد الثلاثين مِن يونيو بصفة رسميًة؛ أى عن طريق وبمعرفة الحكومة آنذاك، فلم أجد إلا سرابًا، وحين تواصلت مع أحد أعضائها الذين توسمت فيهم قدرًا مِن الحيادية، لم أجد إلا اعتذارًا مُطوَّلا، فالتقرير قد انتهى، وقُدِّم إلى مؤسسة الرئاسة، وأُعطِيَت الصحف مُختصرًا بسيطًا منه لا يغنى ولا يُسمِن مِن جُوع؛ شذرات تُرضى الأطرافَ جميعها، أو ربما تغضبها بغير أن تستفزَ إجراءً عنيفًا، لكن أعضاء اللجنة حُرِموا مِن الحديث عن التقرير الذى اختفى وكأن لم يكن، وكأن البحث والتقصّى لم يُسفرا عن النتيجة المطلوبة مُسبقًا فكان لِزامًا أن يُباد ويُمحى مِن الوجود، وكأن المواطنين أطفالٌ سرعان ما ينسون حاجاتهم بقطعةٍ مِن الحلوى، أو بألمٍ ينتابُهم على حين غرة، أو بحادثة تقع لهم فينشغلون بها عما سواها. لم تكن هذه السابقة هى الأولى من نوعها بل سبقها الكثير، ولنا أن نتذكر أحداث ماسبيرو والتقرير الخاص بها على سبيل المثال لا الحصر.

***

يبدو أن تاريخنا يُكتب بالماء، وزيفنا يوثق ويقدم فى ثوب الحقيقة عنوة وافتراءً، وعلى كل حال أظن ما جرى ويجرى إلى الآن مِن جورٍ وقمعٍ وعدوان، سيبقى فى ذاكرة الناس، حتى وإن أُريد له أن يسلك طريقَ النسيان الأبديّ، وربما يجيء يوم تظهر فيه المعلومات الغائبة وتتراص متجاورة لتدين الجلادين.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات