قرارات الرئيس مرسى بإقالة بعض القيادات العسكرية ـ وعلى رأسها وزير الدفاع وقائد الأركان وقائد الشرطة العسكرية ورئيس المخابرات ـ تمثل نقلة مهمة فى تأريخ العلاقات المدنية العسكرية فى مصر، غير أنها ـ على أهميتها ـ لا تكفى لضمان الانتقال لأوضاع تعالج الأخطاء السياسية للماضى.
أهمية الإقالات تكمن فى أنها أولى خطوات ترسيخ السيادة المدنية فى مواجهة السلطة العسكرية التى ظلت تتحكم فى مجرى الأمور بعيدا عن إرادة الجماهير منذ نشأة الدولة الحديثة، وأمام هذه الأهمية الرمزية للحدث جاز توارى الجدل حول دوافعه، وغض الطرف عن تقليد المقالين أرفع الأوسمة، ومع ذلك فلا ينبغى صرف النظر عن بقية الإجراءات المطلوب اتخاذها لتكون الإقالات جزءا من مسار الانتقال لأوضاع سعت الثورة لإيجادها.
•••
الانتقال لأوضاع جديدة لا يمكن أن يحدث بمجرد تغيير الأفراد، وإنما لا بد معه من تغييرات هيكلية، تتناول بنية الدولة، ومؤسساتها، وقوانينها التى سمحت بنشأة واستمرار أوضاع غير مرغوبة على الأصعدة المختلفة، والقدرة على إنفاذ هذه التغييرات الهيكلية تمثل التحدى الرئيس للثورات ومساعى التغيير، وهى أصعب من إقالة بعض الأشخاص، لأنها تهدد مصالح قطاعات أوسع من رجال النظام السابق، فتكون مقاومتها أشرس، كما أنها فى غالب الأحيان تهدد مصالح متجاوزة للقطر، بعضها إقليمى وبعضها دولى، وبقدر النجاح فى إنفاذ هذه التغييرات يكون الاقتراب من الأوضاع المرجوة.
وهذه التغييرات الهيكلية تمثل فى مساعى الانتقال عنصرا مضافا للعناصر الأخرى للعدالة وليس بديلا عنها، فيضاف لمعاقبة الجناة وتعويض الضحايا بالطرق المختلفة، ومجمل هذه الإجراءات تسمى بالعدالة الانتقالية، وهى العدالة العميقة التى لا تكتفى بالنظر فى الجرائم وإنما تتجاوز ذلك للنظر فى أسباب حصولها وتمحيصها، فتكون النتيجة محاكمة النظام بالأساس لا أفراده، ومن ثم التعامل مع بعض أفراده وموظفيه ـ خاصة من هم فى الدرجات الأدنى ـ باعتبارهم جناة وضحايا فى ذات الوقت، الأمر الذى قد يؤدى لتخفيف العقوبة عن بعضهم، وإلغائها بالكلية عن البعض، مع بقاء المسئولية السياسية عند كبار مسئولى النظام والمتورطين فى الجنايات.
ومثل هذه الإجراءات المنظمة للانتقال لابد لإنجاحها أن تتم وفق استراتيجية شاملة، إذ بدونها تصير إجراءات كالتى اتخذها الرئيس مرسى مرضية للثوار شافية لما فى الصدور تجاه المسئولين (سياسيا على الأقل) عن مقتل المئات من غير أن تكون مجدية فى ضمان التغيير الحقيقى وغلق الباب أمام تكرار الجرائم، وتحدد هذه الاستراتيجية نطاق التغيير المبتغى، كما تبين سبل إيجاد الشروط الموضوعية لإنجاح الانتقال، التى تنبئ بها تجارب الدول التى مرت بتحولات ناجحة وفاشلة على حد سواء.
•••
أول شروط نجاح الانتقال التعرف على حقيقة الأوضاع التى كانت قائمة، والمبتغى مفارقتها، وهو ما يتم فى غالب حالات الانتقال عن طريق لجنة تحقيق مستقلة ذات صلاحيات واسعة، يتحدد نطاق عملها فى ضوء التغيير المستهدف، ويكون ـ فى جميع الأحوال ـ شاملا الانتهاكات الحقوقية التى ارتكبتها السلطات بحق المواطنين، من إعدام خارج نطاق القانون، واحتجاز غير قانونى، وتعذيب، واختفاء قسرى، ومنع من السفر، وغير ذلك، والكشف عن الحقيقة الكاملة فى هذه الملفات ضرورى لضمان عدم تكرارها، ولتعويض المجنى عليهم، ولمعاقبة الجناة.
وإضافة لهذا الملف، ينبغى أن تتناول استراتيجية الانتقال فى مصر ثلاثة ملفات أخرى، أولها ملف الفساد السياسى، وهو ملف تورطت فيه بعض مؤسسات الدولة مع شبكات المصالح، فتم تزوير الانتخابات، وتسميم وتفجير الأحزاب السياسية، ومنع قيام الأحزاب الجادة، وتفريغ الكثير من المؤسسات السياسية (بما فيها البرلمان والحكومة) من مضامينها السياسية، وتوجيه الإعلام على نحو يخدم هذه المقاصد، وهو أمر تورطت فيه بعض الأجهزة القضائية، والكثير من الأجهزة الأمنية، والحزب الوطنى ورجال الأعمال المحيطين به، وغيرهم، ولابد من التحرى الدقيق لما جرى، وإلا استمر خطر ارتهان نزاهة الانتخابات، وصحة الحياة السياسية بإرادة الأطراف الموجودة فى السلطة.
ثانى الملفات هو المتعلق بالفساد الاقتصادى، ويتناول ما شهدته البلاد من نهب للموارد، سواء أراضى الدولة التى بيعت بأزهد الأسعار، أو الموارد التى تسيطر عليها المؤسسة العسكرية وتديرها بأسلوب أقرب للرق أو الإقطاع، أو الغاز الذى تم تصديره بكسور من قيمته السوقية، أو القطاع العام الذى تم خصخصته لصالح «المحاسيب» بأسعار تقل عن أسعار أصوله المجردة، أو ما تم تداوله بعد الثورة من معلومات عن موارد اقتصادية أديرت بعيدا عن الرقابة وموازنة الدولة وخصصت عوائدها لصالح مؤسسة الرئاسة وأسرة الرئيس، والتعامل مع هذا الملف لا ينبغى أن يقتصر على عقاب الفاسدين، وإنما ينبغى علاج الخلل الذى سمح بمثل هذا الفساد، سواء فى القوانين، أو فى آليات الرقابة، أو فى علاقة المؤسسات بعضها ببعض.
أما ثالث الملفات فهو المتعلق بالفساد الإدارى، أو الإهمال والتراخى الذى عم مؤسسات الدولة فأدى لمقتل آلاف المصريين، غرقا فى العبارة، أو حرقا فى القطار، أو تحت أنقاض مبان منهارة، أو مسرطنين بمبيدات استوردتها الدولة، أو بعمليات إرهابية عجزت الأجهزة الأمنية ـ المشغولة بالسياسة عن دورها المهنى ـ عن صدها، وتحرى الحقيقة الكاملة فى هذه الملفات ينتج عنه وضع اللوائح والقوانين، وإعادة تنظيم العلاقة بين المؤسسات، وإعادة هيكلة آليات التشغيل، بما يضمن كفاءة أعلى، وأداء أوفى للمهام، وخدمة أفضل للمواطن.
•••
إن إجلاء الحقيقة الكاملة فيما يتعلق بهذه الملفات الأربعة ضرورى إن رام الرئيس والموجودون فى السلطة تغييرا حقيقيا يتممون به ما بدأ بإقالة القيادات العسكرية المحسوبة على نظام مبارك، وبقدر النجاح فى إجلائها وفى العلاج الهيكلى لأخطاء الماضى تتحقق أهداف الثورة، وبغير ذلك تكون الإجراءات التى اتخذها الرئيس تطييبا للخواطر واستبدالا لنخبة بنخبة من غير تغيير أسباب الفساد والاستبداد، وأما سبيل النجاح فى هذه التغييرات المطلوبة فربما يستحق الأفراد فى مقال مستقل.