شركات التيفود - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 9:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شركات التيفود

نشر فى : الخميس 24 سبتمبر 2009 - 9:29 ص | آخر تحديث : الخميس 24 سبتمبر 2009 - 9:32 ص

 يأتى فى أزمنة القذارة، ومن أوساط القذارة، لهذا يتمتع بقدرة غير عادية على المراوغة، وعلى الإفساد لنشر المزيد من الفساد، فميكروب التيفود، المكون من بكتيريا سالمونيلا التيفود عصوية الشكل، وبعد أن يتسلل إلى الجهاز الهضمى للإنسان ويصل إلى الأمعاء الدقيقة، يسارع باختراق جدران هذه الأمعاء عبر النقاط الرخوة المؤدية إلى القنوات والغدد الليمفاوية المحيطة، ومنها يرتحل حتى يصل إلى تيار الدم ناشرا فيه تلوثه. ولأن عُصيّاته البكتيرية ذات أهداب تشبه السياط تمكنه من الحركة، فإنه لا يتوانى عن أخبث أنواع الحركة!

تسعى عُصيات التيفود إلى مخابئ الكبد والطحال ونخاع العظام لتتكاثر وتحتشد متأهبة لضربتها الكبيرة التالية، لكن الجهاز المناعى يواجهها بطلائع مقاومته، يطلق عليها سيلا من الخلايا البالعة الكبيرة، لتلتهمها وتدمرها وتهضمها فى النهاية. لكن شيئا غريبا مُريبا يحدث. فعصيات بكتيريا التيفود بدلا من مواجهة الخلايا البالعة، تسارع بالقفز إلى داخلها كأنها تنتظر هذا البلع وتُرحِّب به. وبدهاء خبيث كما كل الفَسدَة والمفسدين، تحوِّر بكتيريا التيفود نفسها، فلا تتعرض للتدمير ولا للهضم فى جوف الخلايا البالعة، ربما بسبب الخداع، وربما لسبب آخر أشبه ما يكون بالرشوة أو التواطؤ، فالخلايا البالعة بدلا من أن تكون حامية للجسد ضد الميكروب، تتحول إلى حامية للميكروب ضد الجسد، وتصير بمثابة عربات مصفحة يتحرك فى جوفها التيفود، آمنا من أى هجوم مضاد لمكونات الجهاز المناعى الأخرى التى لم تنخدع، أو ترتشى، أو تتواطأ.

بقواه الحاشدة الغالبة المستجدة، يوجِّه التيفود ضرباته لأعضاء غير مُتوقَعة كالكلى والقصبات الهوائية، كما يعاود الهجوم ويركزه على الأمعاء الدقيقة، ينخرها ويُقرِّحها ويُدميها ويثقبها ليصل بتلوثه إلى الغشاء البريتونى، فتكون القاضية أو شبه القاضية . وإن لم يتحقق للتيفود مبتغاه فى هذه الدورة، فإنه يبحث عن دورات أخرى، يبدأها من داخل هذا الجسد المُمانِع المُعافىَ حامل الميكروب، ويبثها فى أجساد أخرى تتلقى رسائله الملغومة بالعدوى، وفى هذا الطور البليد العنيد، تكون الحوصلة المرارية هى قلعة التيفود الرسمية الحصينة وبؤرة استمرار أذاه. بها يتحصن، ومنها يواصل نشر العدوى، فيستمر الوباء. وباء القذارة!

وهى ليست القذارة بمعناها العضوى فقط، بل أيضا بكل المعانى السياسية والاجتماعية والحضارية، وهذا مما ارتبط دائما بوباء التيفود ونوبات اجتياحه، خاصة فى مصر. ففى أبريل 1862 ظهر مرض التيفود بين العمال المصريين فى ساحة حفر قناة السويس رقم 6، ثم اتخذ المرض شكل الوباء، وانتشر بسرعة فى بقية ساحات الحفر، وفتك بأفواج وراء أفواج من هؤلاء العمال البائسين.

كانت فضيحة أخلاقية ترددت أصداؤها فى أوروبا، واستغلها المعارضون لشق القناة ذريعة للمطالبة بإيقاف المشروع، وحتى تُبعد الشركة الفرنسية عن نفسها مسئولية تفشِّى الوباء، وضع كبير أطباء هذه الشركة تقريرا طبيا مليئا بالمغالطات والأكاذيب ليثبت أن العمال جاءوا بالتيفود من قراهم البعيدة قبل أن يصلوا إلى منطقة القناة.

وكانت الحقائق المخفية وراء هذه الأكاذيب تؤكد أن جريمة متعددة الأركان ظلت تُرتكب فى حق هؤلاء العمال مما أدى لظهور الوباء وانتشاره بينهم، فقد كانوا يُجلَبون من قراهم بالإكراه، مصفّدى الأيادى ومغلولى الأعناق، ويُساقون كالقطعان تحت تهديد السياط والبنادق، وبعد أن تنتهى بهم رحلة السفر الطويلة المريرة إلى ساحات الحفر فى القناة، يُكرَهون على العمل الشاق تحت الشمس الحارقة وفرقعات الكرابيج، ولم يكونوا يتلقون أجرا لقاء هذا العمل، فقد كانوا يعملون بالسُخرة، مقابل كسرة خبز لا تُشبِع وشربة ماء لا تَروى، وبديهى أنه لم تكن هناك حمامات ولا نظافة ولا رعاية طبية، فكان التيفود!

ثم عاد التيفود، عاد بعد 147 سنة، وعادت معه الأكاذيب وكأن الشركة الفرنسية حلت بمكانها شركة أخرى، مصرية وشاملة هذه المرة، حاولت إلقاء مسئولية ظهور الوباء على المصابين أنفسهم، لأنهم يستخدمون الطلمبات «الحبشية» التى تجلب مياها جوفية ملوثة بمياه الصرف، يشربون منها ويطبخون ويغتسلون. وفات مروجى هذه الحجة أنهم بذلك يكشفون عورة الحُكم الفاشل فى توصيل مياه شرب نقية إلى القرى فى مصر القرن الحادى والعشرين. ولعل هناك من أهل الحكم من انتبه لهذه المفارقة الفاضحة، فتم الكشف عن شبكة مياه شرب جديدة بالقرية المنكوبة ومحيطها، نفذتها شركة كُبرى بنظام المقاولات من الباطن، ولم تكن مطابقة للمواصفات، وتسببت فى خلط مياه الشرب بمياه المجارى!

كان المطلوب تطويق الفضيحة بحصرها فى كبش فداء ضعيف، بدأ بالأهالى ضحايا القُرى المصابة، ولما كان ذلك سخيفا وغير معقول، تم ترشيح مقاول الباطن الصغير، لكن يبدو أنه دافع عن نفسه، وحدث ما يحدث عادة فى أجواء الجرائم الكبرى، تبادل الجناة الاتهامات، وراحت تتكشف خبايا فساد أكبر لمنتفعين متعددين، وصار الانطباع الغالب هو أن هناك شبكة من الفساد يتشارك فيها جناة كثيرون. شركة فساد مصرية لا تقل سوءا فى طواياها ونواياها عن شركة الأجنبى الأفّاق ديليسبس.

شركة ديليسبس كانت شركة فرنسية ومدبّرها كان باغيا علينا، لكنه كان وفيا لبلاده وحالما بمجد شخصى يسجل اسمه فى التاريخ بإنجاز ضخم. آذانا ديليسبس بمعاونة أكثر من خديو سفيه، لكنه أفاد بلاده، ونجح مشروعه الذى كان لابد من تأميمه، ولو لمجرد الثأر لمائة ألف شهيد مصرى قضوا قهرا، بالتيفود وغير التيفود، وهم يحفرون القناة. فماذا تفعل شركة ديليسبس المصرى واسعة النفوذ كثيرة الأذرع والذيول وقدرات البطش؟ إنها تحفر وتحفر وتواصل الحفر، فيكشف حفرها الردىء عن فساد تكوينها وأدائها وأهدافها فى أرض تواصل الهبوط ثم الهبوط، فهل يؤدى كل هذا الهبوط، قياسا على ما حدث بعد تيفود شركة ديليسبس، إلى إفلاس جديد لمصر؟ واحتلال من نوع مختلف؟ قطعا لا نتمنى ذلك.

وللتيفود عودة!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .