مصر قبل ثورة 52 - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الإثنين 3 يونيو 2024 8:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر قبل ثورة 52

نشر فى : السبت 25 يوليه 2020 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 25 يوليه 2020 - 9:13 م

أعجبنى مقال الأستاذ بشير عبدالفتاح بعنوان «حركة يوليو 1952 ومتلازمة فبراير 1942» المنشور بالشروق يوم 21 يوليو الجارى. وسبب إعجابى أن المقال وضع معيارا صحيحا لتقييم ثورة 52 بمقارنتها بحادث 4 فبراير 1942 المشين. فهذا الحدث يمثل السبب الحقيقى لغضبة الشعب المصرى والجيش المصرى للانتهاكات المتكررة لكرامة البلاد وحرص حكام مصر، من أسرة محمد على، على عروشهم قبل حرصهم على أمن وكرامة البلاد. عندما حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين واقتحم السفير البريطانى مايلز لامبسون وبجانبه الجنرال روبرت ستون قائد القوات البريطانية فى مصر على رأس مجموعة من الضباط الإنجليز مكتب الملك وقدم له إنذارا بتكليف النحاس باشا بتشكيل وزارة جديدة تطمئن لها بريطانيا فى وقت كانت دوائر الحرب تدور عليها.
لم يكن السؤال الدائر فى عقل الملك هل يفتدى كرامة مصر أو يقبل إهانتها؟ بل كان السؤال هل يحافظ على عرشه أو يفقده؟ لم يفكر الملك أن يلجأ إلى شعبه ويحتمى به، لم يفكر فى أن يذيع بيانا على الشعب طالبا دعمه فى وقت كانت ساحات مصر زاخرة بالمظاهرات التى تهتف لروميل ومستعدة للانفجار فى وجه الإنجليز دفاعا عن مليكهم إذا دعاهم. لو كان الملك موجودا فى يونيو 67 لهرع إلى موشيه دايان عارضا عليه سيناء مقابل احتفاظه بعرشه، أما جمال عبدالناصر ممثلا للثورة وقيمها، فاحتكم أولا لشعبه عارضا عليه التنحى وهو ما رفضه الشعب ثم أعلن والأدخنة لازالت تنبعث من حطام جيشه لاءاته الثلاثة وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
ولم تكن حادثة 4 فبراير الأولى التى ينحاز فيها أبناء أسرة محمد على لكرسى العرش بدلا من شرف البلاد وكرامتها. ففى يوم 17 يوليو 1882 وأثناء تأهب الجيش المصرى لمواجهة جيش الإنجليز فى كفر الدوار، أصدر الخديوى توفيق مرسوما بإعفاء عرابى من قيادة الجيش واستقبل الخديوى فى قصره الأدميرال بوشامب سيمور قائد الأسطول الذى ضرب الإسكندرية ودمرها وانتقل فى حماية جنوده عبر الإسكندرية من قصر الرمل إلى قصر رأس التين ثم وزع لاحقا الأوسمة والنياشين على ضباط الجيش الإنجليزى الذى هزم الجيش المصرى واحتل البلاد.
ولكن 4 فبراير لم تكن أيضا الحادث الثانى المخزى فى تاريخ الأسرة العلوية. فكتب الخديوى عباس حلمى الثانى بخط يده فى مذكراته أن الجنرال كتشنر عنفه بشدة وطلب منه الاعتذار لضابط بريطانى صغير لأن الخديوى سمح لنفسه أن ينتقد أداء جنود مصريين يتولى تدريبهم الضابط الصغير، وهو ما اعتبره كتشنر إهانة لشرف الجندية البريطانية، وقد قبل الخديوى صاغرا واعتذر للضابط الصغير خوفا من غضب كتشنر.
ولما استنفد عباس حلمى الغرض منه خلعوه وجلبوا حسين كامل الذى رأوا أنه الأفضل لمصالحهم فى فترة الحرب العالمية الأولى. وفرح حسين كامل بالعرش وبلقب السلطات الذى خلعوه عليه، ولم يفكر حتى أن يساوم على أن يجلس على عرش دولة مستقلة دون فرض الحماية عليها، لكنه قبل العرش دون شروط على أسنة رماح الإنجليز.
سلسلة من التخاذلات المهينة التى مست كرامة البلاد، تراكم معها الغضب الشعبى حتى بلغ حد الانفجار وتفجرت معه ثورة يوليو عام 1952 لوضع نهاية لهذه الإهانات.
هذا ما قبله الحكام من إهانات مست كرامة مصر، أما إهانة الإنسان المصرى والمواطن البسيط والفلاح المطحون الذى ساقته السخرة لحفر قناة السويس وسياط شركة قناة السويس العالمية تلهب ظهره فحدث ولا حرج.
لعل أكثر نماذج امتهان الإنسان المصرى فجاجة حكتها البريطانية إميليا إدواردز فى كتابها «ألف ميل على النيل» عن رحلتها فى دهبية على صفحة النيل فى عام 1873 عندما خرج أحد رفقاء صحبتها من الإنجليز لصيد الحمام فى حقل للقمح فأصاب طفلا تحمله قروية، وهاج الفلاحون وتجمهروا حول مطلق النار وتم تسوية الأمر بواسطة الترجمان المصاحب للمجموعة، إلا أنهم رأوا ضرورة إبلاغ الأمر للسلطان حتى لا يتكرر ما حدث مع جماعة أخرى من الأوروبيين حماية لهم من إرهاب الفلاحين!! فلما أبلغوا الأمر للمأمور، جمع فلاحى القرية وأمر بجلدهم وسجنهم ولم يفكر فى استجواب الإنجليزى الذى أطلق الرصاص وأصاب الطفل.
***
كلنا نعرف قصة دنشواى عندما أصاب ضابط بريطانى فلاحا مصريا أثناء صيده للحمام فى قرية دنشواى وانطلق يجرى إلى وحدته فأصيب بضربة شمس ومات. وانحنى عليه فلاح عندما وقع ليسقيه شربة ماء، فأطلق عليه الجنود النار وقتلوه وأصاب الرصاص فلاحة فقتلها. ومع دوى الرصاص أرسل العمدة اثنان من الغفراء لاستطلاع الأمر فأطلق الجنود النار عليهم وقتلوهم، أى أن الجنود الإنجليز قتلوا أربعة مصريين لأن ضابطا بريطانيا مات من ضربة شمس... وأقيمت المحكمة وحكمت بشنق أربعة مصريين آخرين مع جلد العديد وسجن العديدين، ولم تقم المحكمة بمجرد استجواب الجنود البريطانيين الذين قتلوا الفلاحين.
ولم تكن دنشواى هى الحادثة الوحيدة، فيحكى جاير أندرسون الضابط والطبيب البريطانى الذى خدم فى مصر أثناء الحرب العالمية الأولى ثم استقر فيها لفترة طويلة وجمع العديد من القطع الأثرية أهدى بعضها لمصر وأقمنا متحفا باسمه فى القاهرة الإسلامية، يحكى عن تجمهر عدد من المصريين عندما صدمت مركبة بريطانية فتى مصرى فى شوارع القاهرة، فألقى القبض عليهم وحكم عليهم بالجلد والسجن دون مساءلة السائق البريطانى.
***
ظل السائد فى هذا العصر هو عقاب المصرى فى أى مواجهة مع الأوروبيين وإهانته، وهو ما شجع الأوربيون على ظلم وإهانة المصريين. ولم تكن معاملة المصرى على قدم المساواة مع الأجنبى. ولعل من المؤشرات على ذلك أنه عندما كان يتم اعتقال مصرى ذو مكانة وكان لأسرته نفوذ فكان يحتجز فى سجن الأجانب حيث المعاملة آدمية ولا يتعرض للمهانة والإذلال الذى يتعرض لهم المصريون فى سجنهم.
انتهى ذلك تماما بعد ثورة 23 يوليو التى ردت الاعتبار لمصر والمصريين، ولم يعد المصرى يهان فى بلده أو يفضل عليه الأجنبى، وأطلق جمال عبدالناصر صيحته «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد».
إن أعظم إنجازات ثورة 1952 لم يكن تأميم قناة السويس أو بناء السد العالى، لكنها كانت فى تحرير الإنسان المصرى واسترداد حقوقه وكرامته. ولم يجرؤ حاكم بعد ثورة يوليو على مخاطبة الشعب بقوله أنتم عبيد إحساننا كما قال الخديوى إسماعيل لأحمد عرابى ولا دعى حاكم بأنه ولى النعم. عاشت ثورة 23 يوليو المجيدة وتحيا مصر.


عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات