لم يكن السادات شخصية مجهولة.. فسجله معروف والتحفظات عليه معلنة.. ومع ذلك مر بسهولة نسبية إلى مقعد الرجل الأول
طلب عبدالناصر من نائبه إنهاء استيلائه على «قصر الموجى» والاعتكاف فى قريته «ميت أبوالكوم» لحين البت فى مستقبله
حسب جميع الشهادات المعلنة للذين اتهموا بالتآمر لإطاحة «السادات» فإن خطأهم الأكبر هو أنهم لم يتآمروا
كانت مقاليد السلطة استتبت لـ«أنور السادات» بعد إزاحة منافسيه عليها والزج بهم فى السجون عندما داهمت نيران الفتنة الطائفية مصر يوم (٦) نوفمبر (١٩٧٢) فى مركز «الخانكة»
تفكيك الاقتصاد الوطنى باسم الانفتاح الاقتصادى أسس لطبقة جديدة وظيفتها مساندة نوع معين من السلام
كان فتح «ملف عبدالناصر» عقب حرب أكتوبر تمهيدًا لسياسات تمددت من الانفتاح الاقتصادى إلى الصلح مع إسرائيل بالتنازلات التى انطوى عليها
كان غياب «جمال عبدالناصر« مفاجئًا وصاعقًا، لكنه لم يحل ــ رغم مشاعر الحزن التى غمرت المصريين ــ دون أن يبدأ الصراع على السلطة.
من يخلفه فى منصبه.. وكيف تُدار الدولة بعده؟
كان ذلك أمرًا طبيعيًا، فالسلطة ـ أى سلطة ـ لا تعرف الفراغ.
طرحت أفكار كثيرة فى لحظات الحزن مثل «القيادة الجماعية»، وضرورات التماسك والانتقال السلمى للسلطة، فالبلد لا يحتمل تنازعًا عليها فى وقت حرب.
كانت تلك أفكارا نبيلة فى مقصدها ونواياها لم يُكتب لها أن تستقر على أرض، فالسلطة هى السلطة.
لخص مشهد واحد فى جنازة «عبدالناصر» افتراق الطرق بين رجلين وتوجهين داخل بنية النظام، أولهما ــ نائب رئيس الجمهورية «أنور السادات»، وهو يتصور أن صعوده إلى منصب الرجل الأول محفوظ بالتراتبية والأقدمية، رغم أن دوره محدود وهامشى فى صنع القرار.. وثانيهما ــ أمين عام الاتحاد الاشتراكى ورئيس الوزراء السابق «على صبرى»، وهو يتصور أن صعوده إلى نفس المنصب محفوظ بحجم نفوذه داخل المؤسستين السياسية والأمنية.
فى ذلك المشهد تخلف الرجلان عن المضى مع الشخصيات الدولية والعربية خلف الجثمان قبل أن تضطرها الجماهير الملتاعة على ترك الجنازة.
عاد «السادات» إلى مجلس قيادة الثورة بالقرب من كوبرى الجلاء على كورنيش النيل مسنودًا على اثنين من مرافقيه بعد إصابته بحالة إغماء.
أدخل على الفور إلى حجرة رجال المطافئ لتلقى الإسعافات الضرورية.
بعده مباشرة جاء «على صبرى» بداعى الإرهاق الشديد وأدخل إلى الحجرة نفسها.
كان «عادل الأشوح»، مدير مكتب أمين التنظيم الطليعى «شعراوى جمعة»، الذى يتولى فى الوقت نفسه حقيبة الداخلية، المكلف بالإشراف على المكان واستقبال الشخصيات الدولية وكبار المسئولين.
حسب رواية لـ«الأشوح» فإنه طلب من الدكتور «حمدى السيد» ــ نقيب الأطباء فيما بعد ــ الكشف عليهما للنظر فيما إذا كان هناك خطر على حياتهما يستوجب التصرف العاجل.
قال «حمدى السيد»: «مافيش حاجة.. مرض سياسى».
أثناء مغادرتهما المكان قال «السادات» عند الباب الخارجى: «تعال يا على أوصلك».
ـ «لا، اتفضل أنت.. طريقى غير طريقك».
كان ذلك التعبير الذى أطلقه «على صبرى»، بقصد دلالاته السياسية أو بدون قصد، مثار تعليق كل الذين استمعوا إليه، أو وصل إلى علمهم.
لم يكن «أنور السادات» شخصية مجهولة، فسجله معروف والتحفظات عليه معلنة فى أروقة التنظيم السياسى ودوائر الدولة، ومع ذلك مر بسهولة نسبية إلى مقعد الرجل الأول.
باستثناء أصوات معدودة فى التنظيم الطليعى، أو داخل الاتحاد الاشتراكى، لم تكن هناك ممانعة كبيرة فى التقدم به رئيسًا لاستفتاء عام.
تكفلت المجموعة المهيمنة على مقاليد الأمور داخل مؤسسات الدولة بالدعوة إلى انتخابه رئيسًا.
كانت المفارقة الكبرى أن «السادات» أودعها السجون بعد زهاء سبعة أشهر بتهمة التآمر عليه، فيما سميت بـ«ثورة التصحيح»، أو «انقلاب ١٥ مايو» بتوصيف آخر.
شملت قائمة المعتقلين نائب رئيس الجمهورية «على صبرى»، والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول «محمد فوزى»، ووزير الداخلية «شعراوى جمعة»، ورئيس المخابرات العامة «أحمد كامل»، ووزير الإعلام «محمد فائق»، ووزير رئاسة الجمهورية «سامى شرف»، وعدد كبير من قيادات التنظيم السياسى ومنظمة الشباب الاشتراكى.
كما شملت ــ مع الذين صعدوا بـ«السادات» إلى الرئاسة ـ «فريد عبدالكريم» أمين الاتحاد الاشتراكى فى الجيزة، الذى اعترض وحده ــ تقريبًا ــ على اختياره.
لم يكن اعتراض «فريد عبدالكريم»، مسألة تقدير سياسى لمدى صلاحية «السادات» لتولى المنصب الأرفع فى البلاد.
لا أحد تقريبًا كان مقتنعًا بمثل هذه الصلاحية.
انصب جوهر اعتراضه فى مدى نزاهة الرئيس المرشح على خلفية استيلائه على قصر «الموجى» بالجيزة، وقد جرت مواجهة معلنة بين الرجلين.
أثر تلك المواجهة طلب «عبدالناصر» من نائبه إنهاء استيلائه على القصر والاعتكاف فى قريته «ميت أبو الكوم»، لحين البت فى مستقبله، غير أنه سمح له بالحضور إلى القاهرة لسبب أو لآخر والتقطت له صور مع الرئيس قبل رحيله بثلاثة أسابيع.
لعبت المقادير لعبتها، ففى لحظة الرحيل كان هو ــ وحده ــ نائبًا للرئيس وفى وضع خلافة أفضل من غيره.
أنور السادات
فى مراجعات ما بعد هزيمة «يونيو»، التى سجلت فى محاضر رسمية، إشارات لنوع الصدام المتوقع إذا ما اختفى فجأة الرئيس «عبدالناصر».
فى محضر (٣) أغسطس (١٩٦٧) لاجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى، وهو كاشف أكثر من غيره لحقائق القوة وطبائع الرجال، يستلفت الانتباه مواقف ثلاثة رجال قدر لهم أن تُطرح أسماؤهم لخلافة «عبدالناصر» بعد رحيله.
الأول ــ «زكريا محيى الدين»، نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الداخلية الأسبق ومؤسس المخابرات العامة المصرية، الذى رشحه «عبدالناصر» لخلافته فى خطاب التنحى.
كان الأكثر وضوحًا فى طرح أفكاره.. فهو مع التحول إلى نظام سياسى مفتوح، وأن تكون الانتخابات غير موجهة.. وهو مع دور أكبر للقطاع الخاص فى تحمل مسئولية تشغيل العمالة ورفع ما تستشعره الرأسمالية الوطنية من عدم مساواة فى الحقوق والواجبات.
بتلخيص ما فإن مجمل رؤيته على يمين الخيارات الاجتماعية لـ«عبدالناصر»، لكن دون صدام كبير معها، كما تدعم توجهه الجديد لتأسيس نظام مفتوح.
فى ذلك المحضر انتقد «زكريا محيى الدين» الجهاز الشعبى، الذى يقوده «على صبرى» فى حضوره، حيث لم تحدث به تطورات تلاحق إنجازات الجهاز الحكومى، وجرت مناقشة مقتضبة بينهما لم تستبن فيها حدود الخلافات.
والثانى ـ «على صبرى» الرجل الذى أشرف على الخطة الخمسية الأولى بين عامى (١٩٦٢) و(١٩٦٥)، التى وصفها تقرير البنك الدولى بأنها تجربة تنمية يحتذى بها فى العالم الثالث، حيث بلغ متوسط النمو (٧.٦٪) ووصلت عوائد التنمية إلى أوسع قاعدة من المواطنين.
بالتكوين الفكرى، فهو اشتراكى ومجمل آرائه تختلف مع «زكريا محيى الدين».
فى مداخلاته اعتبر أن مشكلة الديمقراطية لا تنحصر فى إجراءات الأمن القومى إذ لم تكن مانعًا فى أى بلد من تحقيقها، وأنه يجب الحفاظ على ما تحقق من إنجازات.
والثالث ــ «أنور السادات» رئيس مجلس الأمة، الذى لم تسند إليه حتى ذلك الوقت أية مهام فى الجهاز التنفيذى.
لم تبد فى مداخلاته أية انتقادات لنظام الحكم قبل (٥) يونيو لها صلة بقضية الديمقراطية، مانع فى اجتماعات عديدة من أى إقدام على التغيير مؤيدًا على طول الخط «عبدالناصر» بغض النظر عن طبيعة نظامه، ولا أعرب عن أية توجهات اجتماعية تُعبر عن شخصية صاحبها.
تباينت وجهات نظر الرجال الثلاثة فى ملف تجاوزات اللجنة العليا لتصفية الإقطاع وإجراءات الحراسات، عندما فتحه «عبدالناصر».
«محيى الدين» ركز على ما سببته من ضرر بشيء من الوضوح، و«صبرى» اعتبر «إن الخطأ الذى حدث فى لجنة تصفية الإقطاع أنها لم تراع عند التطبيق فى بعض الحالات ما قررناه من مبادئ وقواعد»، و«السادات» أعاد إنتاج النظرة الأخيرة نفسها مع تحوط وحذر: «لا يمكن أن نقول إن إجراءات الحراسات كانت خاطئة، وإنما الخطأ كان فقط فى بعض حالات فردية وليس فى كلها».
لجأ إلى الصمت الكامل عندما انتقد «على صبرى» أداء مجلس الأمة، الذى يترأسه فى ملف التجاوزات والحراسات «إذ كان من الممكن أن يكون أكثر فائدة».
عند الرحيل المفاجئ لـ«عبدالناصر» طُرحت أسماء الرجال الثلاثة فى المجال العام.
استبعد «زكريا محيى الدين» بأسرع وقت ممكن.
كان تصدر اسمه لخبر نشرته صحيفة «الأهرام» عن إجراءات الجنازة، داعيًا إلى تحركات واتصالات وتوافقات بين جماعات متعارضة على إبعاد أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق عن أى دور.
حمل خبر «الأهرام»، الذى كتبه الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، نوعًا من التزكية المبكرة.
كان «زكريا محيى الدين» خياره الأول لخلافة «عبدالناصر».
بعد أن استبعد «محيى الدين» بقى الرجلان الآخران.
فى ظروف وتوازنات معقدة تقاسما السلطة، «السادات» رئيسًا و«على صبرى» نائبًا.
كان ذلك مشروع صدام محتم بالنظر إلى طبيعة الرجلين.
علي صبري
حانت لحظة الصدام وافتراق الطرق.
كانت اتفاقية الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا وليبيا فى بنى غازى يوم (١٧) إبريل (١٩٧١) سبب الصدام لا جوهره.
نقل الصراع إلى مستوى إلى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، وخرجت أزمة السلطة إلى العلن.
طُرحت أسئلة كثيرة بينها مدى صلاحيات الرئيس، وإلى أى حد يلتزم بالقيادة الجماعية، وموعد الحرب وجاهزية الاستعداد لها.
تلاحقت مشاهد الأزمة.
عُزل «على صبرى» من منصبه نائبًا للرئيس فى الأول من مايو.
دبت خلافات بين المجموعة المهيمنة على الطريقة التى يتوجب عليهم التصرف بمقتضاها.
استقر الرأى بعد وقت قصير على تقديم استقالة جماعية، أعلنت من الإذاعة يوم (١٣) مايو.
كان ذلك خطأ هائلًا فى إدارة الأزمة أفضى إلى اعتقالهم واتهامهم بالتآمر.
حسب جميع الشهادات المعلنة للذين اتهموا بالتآمر لإطاحة «السادات»، فإن خطأهم الأكبر هو أنهم لم يتآمروا.
جرى وصفهم بـ«مجموعة على صبرى»، نائب رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت، لكنهم لم يبدوا حماسًا للصعود بـ«الرجل القوى» إلى موقع رئيس الجمهورية بعد رحيل «عبدالناصر»، وفضّلوا بصورة أو أخرى «الرجل الضعيف ــ أنور السادات» بظن أنه يمكن التحكم فيه.
هذه قصة معتادة فى التاريخ المصرى وأثمانها معروفة.
فى أحداث مايو اختلطت أوراق وتداخلت اعتبارات متناقضة.
لم تكن هناك إدارة واحدة للأزمة، ولا كان هناك تجانس بين الذين ضمهم قفص واحد فى المحاكمات التى جرت.
ما هو أكثر مأساوية أنه جرى ضربهم عن طريق معاونيهم وأوثق رجالهم.
تولى «ممدوح سالم» أقرب رجال أمين عام التنظيم الطليعى ووزير الداخلية «شعراوى جمعة»، السيطرة على الملف الأمنى دون أى مقاومة.
وتولى الفريق «محمد صادق»، رئيس هيئة الأركان حسم الموقف العسكرى فى مواجهة القائد العام، الفريق أول «محمد فوزى» بلا أى ممانعة.
وبادر «محمد عبدالسلام الزيات» للسيطرة على وزارة الإعلام، بعد أن غادرها الوزير المستقيل «محمد فائق»، دون أن يكون معه أحد يسنده.
وتقدم اللواء «الليثى ناصف»، قائد الحرس الجمهورى لاعتقال المجموعة القيادية كلها بمن فيهم «سامى شرف»، الذى كان يأخذ منه تعليماته حتى أيام قليلة مضت.
انهار كل شيء فى لحظة واحدة.
لماذا؟.. وكيف؟
السؤال يدخل فى طبيعة النظام، الذى لم يستطع أن يصمد لأول عاصفة هبت عليه بعد رحيل مؤسسه.
زكريا محيى الدين
كانت مقاليد السلطة استتبت لـ«أنور السادات» بعد إزاحة منافسيه عليها والزج بهم فى السجون عندما داهمت نيران الفتنة الطائفية مصر يوم (٦) نوفمبر (١٩٧٢) فى مركز «الخانكة».
لماذا هبت الفتنة فى ذلك الوقت بعد عقود طويلة خمدت فيها نيرانها؟
ينسب لتجربة «عبدالناصر» أنها ضربت الأساس الاجتماعى للنخبة القبطية وجردتها من أراضٍ وممتلكات ومصانع بالقوانين الاشتراكية.
هذا اتهام شائع وله صدى، رغم أن القوانين نفسها طبقت بلا تمييز واستفادت من ثمارها الطبقة الوسطى والفئات المحرومة بغض النظر عن الانتماء الدينى.
بقدر عمق التحولات وما انطوت عليه من فلسفة اجتماعية تعمل بقدر ما تستطيع على إشاعة العدالة والمساواة وإعلاء قيمة المواطنة تأكد التماسك الوطنى وخفتت النزعات الطائفية إلى حدود كبيرة.
ما الذى استدعى الفتنة من مكامنها، ولم يكن النظام الجديد قد كشف عن توجهاته فى النظر إلى حقوق المواطنة والبلد يتأهب لخوض حرب تقرر مصيره؟
تبدى احتمال أن يكون هناك من طلب إرباك الوضع الداخلى، أو تفجيره بالفتن، قبل أية مواجهات عسكرية منتظرة، لكنه لم يثبت ولا قام عليه دليل.
أرجح الاحتمالات هو الجو العام نفسه.
لم يكن الرئيس الجديد مقنعًا لقطاعات كبيرة من المواطنين بقدرته على ملء فراغ سلفه الراحل، وريح المعارضة تهب عليه من داخل نظامه وخارجه على السواء.
بدأ التفكير مبكرًا، وهذا ثابت ومؤكد بشهادات واعترافات، فى استخدام الورقة الدينية لضرب التيارين الناصرى والماركسى.
جرت اتصالات لعودة أقطاب جماعة «الإخوان المسلمين» من الخارج والتصالح معها.
برز فى الحلقة المقربة «محمد عثمان اسماعيل» محافظ أسيوط الأسبق صاحب العبارة الشهيرة: «أعداء النظام ثلاثة، الشيوعيون والناصريون والأقباط».
وكان قد شرع فى تأسيس «الجماعة الإسلامية» بالجامعات المصرية لمواجهة الطلاب اليساريين الذين يعارضون «السادات».
كانت اللعبة فى بدايتها لم تأخذ بعد كامل أبعادها مثل إعلان «السادات» أنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة»، لكنها وفرت بيئة سلبية احتضنت الفتنة وزكت نيرانها، التى داهمت المصريين على غير توقع أو انتظار.
شكلت لجنة برلمانية لتقصى الحقائق ترأسها الفقيه القانونى الدكتور «جمال العطيفى»، انتهت بعد عشرين يومًا إلى استخلاصات وتوصيات لاقت قبولًا عامًا، لكنها أودعت الأدراج إلى الأبد.
تمددت الفتن واشتعلت النيران فى «سمالوط» و«أبو زعبل» (١٩٧٨) و«الزاوية الحمراء» (١٩٨١) و«شبرا» و«الزيتون» و«إمبابة» (١٩٩١) و«الكشح» (٢٠٠٠)، كما مناطق أخرى على الخريطة ربما لم يسمع باسمها أحد من قبل، حتى وصلنا فى عام (2013) إلى موجة عاتية من حرق الكنائس ارتكبتها جماعة «الإخوان المسلمين» لإضفاء طابع دينى على صراع سياسى بعد إطاحتها من الحكم.
بين عامى (٢٠١٦) و(2018) جرت فتن جديدة فى محافظات «المنيا» و«بنى سويف» و«أسوان» وامتد الخيط مزعجا إلى المستقبل.
أحمد بهاء الدين
كان فتح «ملف عبدالناصر» عقب حرب أكتوبر (1973) تمهيدًا لسياسات تمددت من الانفتاح الاقتصادى بالطريقة التى جرت بها إلى الصلح مع إسرائيل بالتنازلات التى انطوى عليها.
أهدرت سياسات «يوليو» الاجتماعية، وبدا الانفتاح «سداحا مداحا» بتعبير الأستاذ «أحمد بهاء الدين»، كما أهدرت النتائج العسكرية لحرب أكتوبر بمقولتى: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسى».. و«٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة».
«شاهدت زيارة السادات للكنيست بالكويت.. بعد دقائق اختفت النساء. كن يبكين بالحمامات وغرف النوم».
تلخص تلك العبارة للأستاذ «أحمد بهاء الدين» شيئًا من الجو العام فى العالم العربى لحظة زيارة القدس.
عالم بأكمله انهار تحت ومضات الكاميرات ومرحلة كاملة من التاريخ أغلقت بالدموع.
فى أجواء الصدام اختبرت معادن رجال وصلابة مواقف.
تصدرت مشاهد رفض اتفاقيتى «كامب ديفيد» تيارات وأحزاب يصعب أن تلتقى.
وتشاركت فى رفض تطبيع مع إسرائيل أجيال وأحزاب ونقابات وجمعيات أهلية، وكل ما يتحرك بالحيوية فى البلد.
كان من أبرز الوجوه التى تصدت لـ«كامب ديفيد» نقيب المحامين «عبدالعزيز الشوربجى»، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق.
بخلفيته السياسية فهو «وفدى» يجافى تجربة «جمال عبدالناصر» فى الحكم غير أنه فى لحظة «كامب ديفيد» وما تمثله من خطر على الوطنية المصرية قال بما هو نصه فى محضر التحقيقات معه أمام النيابة العامة:
«والله لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لكنت من رجاله وحاربت خلفه».
فقيه قانونى آخر من أفضل من مروا على مصر من محامين كبار هو الدكتور «محمد عصفور»، وجد نفسه ـ بقوة الوطنية المصرية رغم الخلاف المعلن مع «عبدالناصر» ـ يقول فى حوار صحفى منشور: «أمريكا استغلت السادات لإجهاض مشروع ناصر».
بمضى الوقت استقرت حقائق المشروع المضاد.
تفكيك الاقتصاد الوطنى باسم الانفتاح الاقتصادى أسس لطبقة جديدة وظيفتها مساندة نوع معين من السلام.
وتفكيك نظرية الأمن القومى باسم السلام مع إسرائيل أسس لتراجع المكانة المصرية فى محيطها وقارتها وعالمها الثالث.
بتصدع المشروع الوطنى لم يكن ممكنًا بناء اقتصاد قوى، رغم وعود الرخاء، ولا تأسيس ديمقراطية حقيقية تقوم على التعددية والتنافس الحزبى وفق أصول مدنية الدولة والاحتكام إلى القواعد الحديثة.
لم يكن «السادات» هو الموضوع بقدر ما كان مشروعه المضاد.
هناك رواية شائعة رددها «أحمد حمروش» وآخرون، أن «عبدالناصر» قرر عزل «السادات» من منصب نائب رئيس الجمهورية وتعيين «عبداللطيف البغدادى» محله، لكنها غير مؤكدة ولا أقيم عليها دليل.
إذا كان قد قدر لهذه الرواية الافتراضية أن تحدث، فإن سيناريوهات غروب «يوليو» قد تختلف، دون أن يكون هناك أمل كبير فى استطراد مشروعها وتجديد أفكارها.
«البغدادى» نفسه هاجم «عبدالناصر» فى شهادات منشورة، ولم يكن هو الرجل الذى يمكن أن يجدد الثورة ويضخ دماء جديدة فى شرعيتها.
لم تكن لدى «عبدالناصر» نفسه ثقة كبيرة فيما قد يحدث بعده.
فى رواية مستلفتة لرجل التصنيع الدكتور «عزيز صدقى» بتاريخ (٤) يوليو (٢٠٠٥) فإن «عبدالناصر» قال له عام (١٩٦٨): «إحنا مش هنعيش كتير.. واللى جاى بعدنا معرفش هيعمل إيه.. واللى أنت بتعمله مش هيقدروا يهدوه».
كانت تلك شهادة إضافية من «عبدالناصر» نفسه على أزمة نظام «يوليو»، وعدم قدرته على حمل مشروعه إلى المستقبل.
هكذا خذل النظام مشروعه وحرمه من فرص تجديده بالمراجعة والإضافة حسب احتياجات العصور المتغيرة.