الثورة والطبقة الوسطى الجديدة فى مصر - جلال أمين - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثورة والطبقة الوسطى الجديدة فى مصر

نشر فى : الثلاثاء 25 نوفمبر 2014 - 8:30 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 25 نوفمبر 2014 - 11:14 ص

لا أتفق مع من يقول إن الثورة المصرية الأخيرة «2011» غيّرت من طباع المصريين وأخلاقهم، أو حتى من أنماط سلوكهم.

هذه الأشياء لا تغيرها ثورة لم تمض عليها بعد أربع سنوات، ولم يصدر عنها أى إجراء أو قانون يستهدف إحداث تغييرات اجتماعية أو اقتصادية مهمة، مثلما حدث مثلا بصدور قانون الإصلاح الزراعى بعد أقل من شهرين من قيام ثورة 23 يوليو 1952.

ومع ذلك فالثورة لابد أن تزيح الغطاء عن تغييرات عميقة حدثت فى المصريين خلال العقود السابقة عليها، وهو ما فعلته ثورة يناير 2011، فكشفت عن تغيرات مهمة أحدثتها تقلبات الحياة الاقتصادية والاجتماعية فى مصر خلال الستين عاما السابقة عليها، من زوال الإقطاع، إلى تأميمات المصانع والمتاجر، إلى حركة التصنيع، وزيادة الهجرة من الريف إلى المدينة، إلى انتشار التعليم فى الأقاليم والقرى، والهجرة إلى الخليج، إلى التضخم الجامح والانفتاح الاقتصادى وفتح الأبواب للأجانب والسلع المستوردة.. إلخ.

كان لابد أن ينتج عن هذا كله نموا سريعا فى الطبقة الوسطى المصرية لم تعرف مصر مثله، ربما طوال تاريخها كله. وكان لسرعة هذا النمو فى حجم الطبقة الوسطى، وطبيعة العوامل التى أدت إليه، آثار مهمة فى سلوك هذه الطبقة وطموحاتها ونظرتها للحياة.

هذه التغييرات ظهر بعضها حتى قبل ثورة يناير 2011، ولكن هذه الثورة بما أحدثته من تغييرات سياسية، وإحلال مسئولين جدد ينتمون إلى هذه الشرائح الاجتماعية التى نمت وترعرعت خلال الستين عاما السابقة، كان لابد أن تكشف أيضا وبوضوح أكبر، عما حدث للطبقة الوسطى من تغييرات لم تكن واضحة تماما قبل الثورة.

كانت الطبقة الوسطى القديمة التى سادت حتى منتصف القرن الماضى يسهل تمييزها بمجرد النظر: يرتدى معظم أفرادها الزى الأوروبى، والحذاء طبعا، بينما ترتدى الطبقة الدنيا الجلابية، ويسير معظم أفرادها حفاة. كانت تلك الطبقة الوسطى القديمة قد حصلت على قدر كبير أو صغير من التعليم، ويعمل معظم أفرادها موظفين لدى الحكومة، بينما كانت غالبية الطبقة الدنيا من الأميين، الذين يشتغلون فى خدمة الإقطاعيين فى الريف، أو فى أعمال رثة فى المدن، بما فى ذلك الخدمة المنزلية. أدى كل هذا، بالإضافة إلى طول عهد هذه الطبقة الوسطى القديمة بالانتماء إلى نفس الطبقة، هم وآباؤهم، إلى درجة عالية لدى أفرادها من الرضا عن النفس، والاطمئنان إلى المستقبل، كما ساعد على ذلك أيضا استقرار نسبى فى مستوى الأسعار والاطمئنان إلى حصول الأولاد على وظيفة، واستمرار ما يحصلون عليه من احترام من الطبقة الأدنى، وقلة طموحهم للالتحاق بالطبقة الأعلى لاستحالة تملك مساحة شاسعة من الأراضى تحولهم إلى إقطاعيين، ناهيك عن الانتماء إلى أسرة أو أخرى من الأسر الإقطاعية العريقة.

كان هذا هو الحل فى منتصف القرن الماضى، عندما قامت ثورة 1952، فلما جاءت ثورة 2011، بعدها بستين عاما، انكشف الغطاء عن طبقة وسطى جديدة تتكون من جيلين: الجيل الأكبر سنا له سمات نفسية وأخلاقية مختلفة جدا عن سمات الطبقة الوسطى القديمة التى وصفتها حالا. إنه جيل مضطرب قلق، لا يتمتع بثقة عالية بالنفس، ويخاف المستقبل، ومن ثم فهو أكثر استعدادا للنفاق والتظاهر بغير الحقيقية. لقد حصل على تعليم سطحى ومتسرع، مما بدأ يشيع فى مصر منذ أوائل السبعينيات. عرف هذا الجيل الغرب وسلعه عن طريق الانفتاح الاقتصادى، ولكنه لا يجد من السهل مثلما يجد أولاده التعامل مع أجهزة الغرب وفنونه ولغته.

إنه جيل «هذا الجيل الأكبر» بهرته سلع الغرب التى جاءت إليه بعد حرمان طويل، ولم يستطع نسيان أيام هذا الحرمان الذى لم يتعرض أولاده لمثله. إنه جيل يتظاهر باحترام التراث بينما هو مبهور فى الحقيقة بكل ما يأتى به الغرب. قد يطلق لحية كثيفة أو خفيفة، على أمل أن يفيده هذا فى انتهاز الفرص المتاحة، ولكنه لا ينفعل مثل انفعال الجيل الأصغر لأى إهانة قد تتعرض لها بلده وقومه.

على العكس من ذلك تجد الجيل الأصغر الذى كان عماد ثورة 2011، جيلا منفتحا على العالم. أكسبه هذا الانفتاح، بالإضافة إلى تعليم خاص كثيرا ما كان أفضل مما حصل عليه أبواه، ثقة كبيرة بالنفس، ولهفة على تحقيق التقدم لبلده. وقد أدت به هذه الثقة الكبيرة بالنفس، مع جذوره الاجتماعية التقليدية، إلى أن تنطوى نفسه على مزيج رائع بين الرغبة فى التقدم وبين احترام تراث بلده وفقا لتقاليد أسرته، بين احترام المرأة المتمثلة فى أخته أو زوجته، التى خرجت معه إلى الميادين تطالب بإسقاط النظام، وبين الحرص عليها مما يمكن أن تتعرض له من أى إيذاء أو تحرش.

من بين المثقفين المنتمين لهذه الطبقة الوسطى الجديدة، التى كشفت عنها ثورة يناير 2012، تجد أيضا هذين الجيلين، الأكبر سنا أكثر استعدادا للنفاق من أجل مكسب عاجل، بينما الأصغر سنا أكثر نقاء وأشد كراهية لكل أنواع الزيف، وهو الذى تنعقد آمالنا عليه.

إن اجتماع هذين الجيلين فى الطبقة الوسطى المصرية السائدة اليوم، بصفاتها المختلفة التى تصل أحيانا إلى درة التضاد، يفسر إلى حد كبير ما يشيع فى حياتنا الاجتماعية والسياسية اليوم من اضطراب «يضاف إليه بالطبع ما يهب علينا من رياح من الخارج مما لا يد لنا فيه». إن مصر ليست وحدها التى تعانى من مثل هذا الاضطراب، فالأخبار التى تأتينا من كثير من بلاد أخرى من بلاد العالم الثالث، التى تعرضت مثلنا لانفتاح مفاجئ على العالم، وعرفت معدلات للتضخم لم تعهد مثله من قبل، ودرجة غير مسبوقة من الحراك الاجتماعى، توحى باضطراب وتوتر مماثلين لما يتعرض له المجتمع المصرى، ولا تعرف مثله الدول التى فرضت علينا هذا الانفتاح فرضا، بفجائيته وعشوائيته، مما يصعب جدا التنبؤ بما سوف ينتهى إليه.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات