الأقوياء يختارون غرماءهم - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 8:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأقوياء يختارون غرماءهم

نشر فى : الجمعة 27 يناير 2017 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 27 يناير 2017 - 10:10 م
انبرى الرجل الكبير بشاربه وذقنه النابت يصرخ فى الولد، يعنفه لأنه اصطدم به عفوًا، وهو يسرع حاملا بضاعة عليه توصيلها بالدراجة. أمسك الرجل ذراع الولد النحيل وانهال عليه صفعًا، فيما المارة يتابعون المشهد بغير أن يسعى أحدهم للحيلولة دون وقوع إصابة جسيمة. مالت عليّ صديقة مذعورة تسأل ما العمل وكيف التدخل دون أن ينالنا من الضارب أذى، وما هى إلا لحظات حتى انفلت الولد مع محاولة حارس العقار -الذى دار المشهد أمامه- تهدئة الرجل وإقناعه بأنه الكبير الأعقل وبأن المُسامِح كريمٌ.

كثيرة هى معارك الشوارع ومتنوعة، يندر فى غالبيتها أن يعود الحقُّ مكتملا إلى صاحبه، إذ يتواطأ الناس على حل وسط يرتضيه الجميع، ولا يُعَاقَب فيه مخطئ أو ينال ما يستحق، بل وكثيرًا ما يميل المجتمعون إلى إنهاء المعارك وحسم نتيجتها لصالح الأقوى والأعلى صوتًا، مثلها فى ذلك مثل معارك السياسة المندلعة فى وقتنا الراهن، المستعرة على طول الخط؛ تدور رحاها بين أفراد ومؤسسات وأجهزة، وبين جماعات وفصائل وأحزاب، قليلها متكافئ وعديدها يمكن وصفه بمعركة الطرف الواحد، حيث فاعل مُتَجَبِّر ومفعول به مُستَضعَف.

●●●

تتوالى المعارك فى أنحاء العالم كله؛ تخبو من ركن لتشتعل فى آخر، هى طبيعة الحياة بوجه عام وسمة الظرف الآنى بوجه خاص، ظرف مرتبك لم يتضح منطقه بعد ولم يستقر، مع ذلك تظل هناك قواعد وأعراف معمول بها، لا يسمح بتجاوزها ولا يستقيم تجاهلها، ويبقى على الناس احترامها مهما احتدم الخلاف واتسع الشقاق.

مِن المعارك والصراعات ما يُوصف بأنه “شريف”؛ يتواجه فيه الخصوم وكل فى أوج قوته وسطوته ونفوذه، يشكلون أندادًا، يقتتلون متسلحين بكامل عتادهم دون أن يطعن أحدهم الآخر فى ظهره، إلى أن يسلم طرف ويعلن الهزيمة فتنتهى ملاحقته. معارك أخرى تخلو من معانى الشرف وخصال النبل والكرامة، ينتظر فيها الخصم غريمه حتى يصبح بحال الوهن الشديد، فينقض عليه بما أوتى من صلف وجبروت مستغلا عجزه عن الرد، يكيل له ضربة تلو ضربة فى لحظات لا تحتاج إعلان القوة اللامحدودة، بل التحلى بشيء مِن الرشد والاتزان.

●●●

معاركنا الحالية من النوع الثاني، لا ترفع فيها ولا اعتداد بالذات بل شغف بالانتقام وتحقيق انتصار كاسح دون النظر إلى مبادئ إنسانية تحكم الصراع؛ هنا لا يُكتَفى بالأسلحة المعنوية، بل يصبح الجسد وسيلة لسحق الخصوم، فأكم مِن معارضين يموتون فى السجون موتًا بطيئًا، وأكم مِن غرماء يفتقرون إلى محاكمات عادلة، وأكم مِن أشخاص يقتلون خارج إطار القانون.

يشير العلماء إلى أن الجلاد يُستَثار من مرأى ضحيته فى حال مزرية وتزداد استثارته كلما أبصرها تتهاوى، فيمعن فى تعذيبها بيديه، صعقًا وحرقًا وإغراقًا، ويبدو لى أن ثمّة استثناءات، فبعض المعارك التى لا تلتقى فيها الأعين ولا يتماس الطرفان جسديًا ولا تشتبك خلالها الأيدى والأرجل، قد تصبح الأمضى ضراوة، كما لو أن التلاحم عن بعد يورث قسوة أكبر وغرورًا أعظم، فحين لا يرى الغريم غريمه ويعمى عن إبصار ما ألحقه به من سوء، يزيد من العنف ويمعن فى التنكيل.

عجبت للنظام الحاكم ينتقم من شيخ أقعده المرض وهدته السنون، فيمنعه رؤية الأحباب والأصحاب، ويعزله مجردًا حتى من الدواء ومن مقومات الاستشفاء، وكأنما يحثه على الإسراع بالرحيل عن الدنيا. عجبت لمن يشعر بحلاوة انتصار على ضعيف لا يملك من أمره شيئًا، عجبت لمن ينافس المرض فتكًا بخصم محتضر، فلا يستجيب للألم وقلة الحيلة والهوان إلا بعد إلحاح وتوسل واستعطاف. هذا سلوك متدن، يأتى به غير القادرين على إدارة صراع سياسى وثقافى وفكرى لا ينحدر إلى مستويات الإيذاء البدني.

●●●

العفو شيمة القوى والانتقام شيمة من لا يثق فى حاله، وفى حين ينتهز الضعفاء فرصة سقوط غرماءهم فينقضون عليهم وهم يعلمون تمام العلم أن المقاومة مستحيلة، فإن الأقوياء لا يدخلون معركة مع خاسر، يربأون بأنفسهم عن استغلال موقف الانكسار ولا تبيح لهم عزة النفس افتراس من لا حول لهم ولا قوة. الضعفاء يدركون أن فرصتهم قد لا تتكرر، لكنهم لا يدركون على الجانب الآخر أنهم بفعلهم هذا إنما يفضحون ضعفهم، وأن من انخدع ظانًا فيهم القوة سرعان ما سيكتشف الخديعة.

●●●

أصابنى وجع الرأس من كثرة ما سمعت من شعارات تستخدم مفردات الأخلاق والتسامح والتعايش وقبول الآخرين؛ يلوكها المسؤولون، يكررها شيخ الأزهر والحاكم وبابا الكنيسة المصرية، لم أر تطبيقًا واحدًا لهذا التسامح، لم أر تفعيلا حقيقيًا له، لم أر انعكاسًا له على مجريات معركة تسعى فيه السلطة لسحق من عدتهم منافسين لها. حديث المبادئ والأخلاق والتسامح ما هو إلا حديثٌ للاستهلاك العام، يجمل الصورة أمام المستمعين والمشاهدين، لا محلّ له على أرض واقعنا.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات