الثورة وحقيبة ألعابى - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثورة وحقيبة ألعابى

نشر فى : الإثنين 27 يناير 2020 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 27 يناير 2020 - 9:55 م

كان لى فى صغرى حقيبة ألعاب، كنت أنشغل بها عن العالم ساعات متصلة، أحملها معى فى رحلة الصيف السنوية الطويلة إلى الإسكندرية. كانت الحقيبة رثة بالية، تغص بقطع دقيقة متناثرة لشخوص وحيوانات ومركبات، وقد نسجت بها قصصا ملحمية، انتصارات وبطولات وممالك تقوم وتزوى. لم أحب أبدا الألعاب التى تتحرّك آليا أو التى تصيح وتصنع ضجيجا، كنت أفضّل المجسمات الصمّاء التى أحركها بيدى، أحملها على الحركة والحديث والقتال، ما إن يهلك أحدها بفعل الزمن والاستهلاك إلا استبدلته بقطع جديدة، لكن انضمام شخصية جديدة لا يكون إلا من خلال حبكة درامية متقنة، تماما كما يفعل صنّاع المسلسلات الفضائية ذات الألف حلقة حينما يرغبون فى دخول ممثل جديد أو خروج ممثل آخر. لا يمر بى أحد من الكبار أثناء لعبى إلا اصطنعت مشهدا عبثيا كالذى اشتهر به الأطفال، وكأننى أخفى حوارا جادا وقصة محبوكة دراميا عن أعين الجميع، لم أطق تحوّل تلك البطولات إلى مدعاة للسخرية أو حتى الإعجاب والاستحسان، كنت أريدها عالما خاصا خالصا لى فى خيالى، لا يطّلع عليه من الخارج أحد بخلاف تلك القطع والشراذم.
***
الخيال منحة ربانية جليلة، سر من أسرار الله أودعه الإنسان عبر نفخته الشريفة التى أطلقها من روحه، تسأل عنه المتصوفة فتعجزهم الكلمات عن التعبير، وكأنما يريد أمثلهم طريقة أن يقول لك إننا جميعا نعيش فى خيال الذات العليا التى تقول للشىء كن فيكون، وكأن عالمنا كله هو محض برنامج متقن محله الوعى الإلهى، وأستغفر الله العظيم إن خاننى اللفظ وأعجزتنى العبارة. تمنيت لو أننى دوّنت بعضا من تلك القصص والملاحم، لو أننى أودعتها صفحات مفكرتى التى كتبت فيها الأزجال والأشعار بخط متعرّج غير مقروء. تلك القصص التى عز أن ينسجها خيال البالغين، كنت لأصنع منها سلسلة مؤلفات للأطفال، ربما لا تقل وهجا عن سلسلة هارى بوتر، فقط لو أنى أذكرها! تحوّل الاهتمامات يأتى سريعا عنيفا، استيقظت ذات صباح فلم أجد متعة فى حقيبة ألعابى! مللت الحوار والأحداث، زهدت فى لحظات الانتصار البريئة التى كنت أعيشها متجليا فى شخوصى التى أبدعتها.. لا يمكننى أن أصف اليوم مشاعر الأسى والمرارة والفراق التى اعترتنى وأنا أودّع ألعابى، تاركا معها ساعات تحصى بالأيام والشهور، كنت خلالها العالم الذى تُبعث فيه الجمادات، والساحر الذى تجرى على يديه المعجزات، كأنها أحداث فيلم أمريكى شهير تستيقظ فيه تماثيل المتحف ليلا، بعدما تدب الروح فيها على أثر إطلاق تعويذة فرعونية عجيبة.
تمر السنوات مسرعة فلا يزعجنى إقبال المشيب وإدبار الشباب، بقدر ما يخيفنى تحوّل الاهتمامات وتقلّبها، فما كان يضحكنى بالأمس ربما أبكانى اليوم، وما كان يطربنى صار بعضه شديد الإزعاج. وما كنت أحسبه نهاية دنياى كما أعرفها، لا أجد له وزنا يذكر! تلك التقلبات تشبه موت الإنسان، وحلول إنسان جديد فى جسده، أراها أقرب إلى تناسخ الأرواح منها إلى أى شىء آخر. ما أخشاه فعلا هو مآلات تلك الاهتمامات، متى وكيف وأين تستقر؟ ماذا لو أن الإنسان توقف فجأة عن الاهتمام بالأشياء، كل الأشياء؟ هذا الشعور المؤلم هو بالتأكيد أسوأ ما يصاب به مرضى الاكتئاب، أعاذنا الله منه أجمعين.
فى نهاية رحلة الحج التى رزقنى الله إياها فى عام 2008، حدث شىء غريب! كنت قد قصدت البيت المعمور مستودعا الله زوجتى وولدى، تاركا وراءى لأيام معلومات وظيفة متميزة، وكنت أسير بخطى حثيثة ثابتة فى مجال عملى، بما أهّلنى لقيادة إدارتين وأنا بعد فى الثلاثين من عمرى. ما إن أوشكت شعائر الحج على الانتهاء حتى تراجعت فى نفسى أهمية الكثير من المتع والمطالب الدنيوية، وحل مكانها اتصال وجدانى بخالق الدنيا لا تشبه لذته أى لذة أخرى، ما ندمت على شىء قط مقدار ندمى على إهمال تلك الحال وخوفى منها، كأننى أردت أن أرجئها وفى العمر ــ كما ظننت ــ متسع للزهد والتنسّك. هنا تبدّلت الاهتمامات فى لمحة، ليتأكد معنى الحج فى عودة الحاج المقبول ــ بإذن الله ــ نقيا تقيا كما ولدته أمه، ولك الاختيار أيها القارئ الكريم بين العودة سريعا للانشغال بالصغائر، وبين تحقيق التوازن الذى أقام به الخالق أمرَىّ الدنيا والآخرة.
***
النظر إلى الثورات الشعبية ووزنها بميزان صنّاعها حينا وأعدائها حينا آخر لا يخلو من التهافت والاضطراب. معركة استصدار صكوك الإدانة أو البراءة لأحداث تاريخية فى لقطة زمنية بعينها لن ينتصر فيها أحد، وسوف تبقى الثورات شاهدة على تقلبات حادة فى أنساق الاهتمامات لكتل حرجة من الناس. من يدرى أيّان يرفع الله ذكرك، ومتى وفيمن يخفضه؟!
لو علم الأنبياء خالدو الذكر أنباء المستقبل لما حزنوا على ما تعرضوا له من اضطهاد وطرد وتشريد، حتى قيل «لا كرامة لنبى فى وطنه». فى رأيى ــ غير المختص بالعلوم السياسية ــ لا تنجح الثورات أو تفشل، لكنها تعيش فى وجدان الأمم ما بقى لها أثر من تغيير، وأثارة من ذكر. هل غيّرت ثورة 25 يناير فى شعب مصر شيئا؟ نعم بالتأكيد، لكن حجم وطبيعة وأهمية هذا التغيير تبقى رهنا بعوامل أخرى منها ما هو محلى، وأكثرها إقليمى وعالمى. الزمن وحده يكتب نهايات الثورات، وليس منا من يدّعى بأنه سوف يحيا حتى يرى كل تلك النهايات. ربما كنت سعيد الحظ فعشت لترى أكثر من نهاية ــ مرحلية ــ للثورة الفرنسية أو الثورة البلشفية مثلا، بيد أن الكلمة الأخيرة فى حق الثورتين لم تكتب بعد، ولن تكتب ما بقى لهما أثر فى تقلبات الناس وشئون معايشهم.
قبل ثورة المعلومات كانت الأحكام اليقينية تملأ كتب التاريخ وسير العظماء. كان الحكم بالصلاح والفساد والنجاح والفشل والنصر والهزيمة... آيات لا تنسخها العوارض والأحداث، حتى تغير وجه الزمن، وأصبح الكل مساهما فى التأريخ والتدوين، وشعر كهنة المؤلفات القديمة بالتهديد والاضطراب، وظنوا أن القيامة قد قامت، وأن أحدا لن ينجو من غضبها إلا بالعودة إلى الوراء، ومحاربة كل ما هو جديد! لا أنكر أن تعدد وجوه الحقيقة واهتزاز الكثير من الثوابت التقليدية يزعجنى أيضا كما يزعج الكثيرين، لكن ربما كان علاج هذا الانزعاج مقرونا بالعدول عن محاولة امتلاك مفاتيح الحقائق إلى معرفة الحق فى ذاته مجردا، دون اعتبار لقول الناس فيه.
فليشغلنا المستقبل الذى بمقدورنا صناعته عن الماضى الذى لا يمكننا تغييره، ولنتعلم من ذلك الماضى دروسا وعبرا لا تثنينا عن التجربة، لكنها تدخلنا إياها مسلّحين بالمعرفة. وحدها المعرفة هى الثروة الحقيقية للأمم. وحدها المعرفة هى الاحتياطى الثمين والغطاء الذهبى الذى لا ينفد أبدا.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية
الاقتباس
النظر إلى الثورات الشعبية ووزنها بميزان صنّاعها حينا وأعدائها حينا آخر لا يخلو من التهافت والاضطراب. معركة استصدار صكوك الإدانة أو البراءة لأحداث تاريخية فى لقطة زمنية بعينها لن ينتصر فيها أحد، وسوف تبقى الثورات شاهدة على تقلبات حادة فى أنساق الاهتمامات لكتل حرجة من الناس.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات