لا مجال للإصلاح .. إنه رغيف العيش - سلمى حسين - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا مجال للإصلاح .. إنه رغيف العيش

نشر فى : الجمعة 27 مارس 2009 - 4:54 م | آخر تحديث : الجمعة 27 مارس 2009 - 4:54 م

 إنها السابعة صباحا. تقف أم أحمد على باب دارها المطل على الساحة حيث يتجمع كل يوم أهالى قرية قصر الجبالى فى الفيوم، فى انتظار السيارة التى تقل إليهم الخبز المدعوم. تقوم فى سرها بحسابات تعلم مسبقا نتيجتها المحبطة، ولكنها طريقتها لقتل لحظات الانتظار. فمهما فعلت لن تستطيع الحصول على كمية الخبز اللازمة لإشباع أبنائها الأربعة. فالكمية التى تحملها العربة إلى القرية لا تكفى احتياجات الأهالى.. ولكنه يبقى أحسن من عدمه.. حيث إن أم أحمد مثل كل السيدات من جيلها فى القرية، نشأت فى زمن أصبح فيه خبيز العيش فى الدار من الذكريات، بسبب تكلفته.

أما فى القاهرة حيث تتركز معظم الأفران التى تصنع الخبز البلدى أبو خمسة قروش، فالوضع ليس بأفضل. فهناك مئات «أم أحمد» ممن يقفن يوميا فى طوابير المهانة وتبديد الجهد والوقت، لتحصل كل منهن على قدر لا يكفيها من خبز لا يرضيها. هذان المشهدان يلخصان مشكلة الرغيف المدعوم. فلماذا لا يتوافر الخبز المدعوم بالكميات المناسبة؟ ولماذا لا يباع فى محال منتشرة، بحيث لا يتعذب الناس للحصول عليه؟ الإجابة تملكها الحكومة منذ سنوات.

فمنذ 2005، وضعت الحكومة تصورا لعيوب نظام الدعم المخصص للخبز، وسيناريوهات للحل. لم ير أى منها النور. ولم تقم الحكومة إلا بمحاولات شكلية وضعيفة للحد من عيوب نظام دعم الخبز باءت كلها بالفشل. بل ولم تقدم الحكومة أسبابا لتأجيل الحل الجذرى «فمن ذا يسائلها إن نسيت أو أخطأت».

والنتيجة إهدار حوالى عشرين مليار جنيه هى مجموع الدعم الذى ذهب إلى الخبز خلال السنوات الثلاث الماضية فقط، وهو مبلغ يساوى الإنفاق الحكومى على تعليم عشرات الملايين من التلاميذ فى عام كامل.. فهل يبقى إهدار المليارات الشحيحة مستمرا؟ نعم. مادام الوضع العبثى قائما.

يرجع العيب الأكبر فى نظام الدعم إلى أن الحكومة تدعم الدقيق وليس الخبز نفسه. أى تبيع الدقيق للمخابز بحوالى ربع ثمنه الحقيقى. وتتحمل الدولة فرق السعر. ويكون على صاحب المخبز أن يضحى بمكسب يصل لمئات الجنيهات عن كل شوال دقيق يمكن أن يبيعه مهربا إلى تجار الدقيق. والموظف الرقيب على حسن استخدام الدقيق المدعوم، عليه بدوره أن يصمد أمام إغراء الحصول على نصيب من كعكة تهريب الدقيق. «إنه نظام يحتاج إلى ملائكة لتنفيذه، لا إلى بشر»، والوصف لماجد عثمان مدير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء. والنتيجة هى تسرب الدقيق إلى المخابز الفاخرة، لتنتهى المليارات التى تدفعها الدولة سنويا إلى جيوب تجار الدقيق. وليبقى دائما فى نهاية الطابور باحث عن الخبز لا يجده.

ولعب الزمان دوره ليضيف عيبا آخر على نظام دعم الخبز. فعندما بدأ نظام الدعم، كان ذلك فى أيام عبد الناصر. فى ذلك الحين كان الفلاحون يخبزون عيشهم فى بيوتهم من زرع أيديهم. أما فى المدن، فقد كان نظام ناصر يدعم الطبقة الوسطى، ومن هنا كان توفير العيش بثمن بخس. «ودارت الأيام» على رأى أم كلثوم. وعندما جاء الرئيس حسنى مبارك إلى الحكم، استمر فى الاعتماد على نفس الركيزة، الطبقة الوسطى، أو طبقة «محدودى الدخل» كما يسميها الرئيس نفسه (لاحظ أنه لا يتكلم عن «معدومى» الدخل). لذلك كان التوسع فى دعم الخبز يقتصر على المناطق الحضرية. وذلك على الرغم من متغير مهم طرأ على البلاد.

فمع سياسات تحرير الزراعة، التى اتبعها يوسف والى منذ بداية التسعينيات، لم تعد الدولة تجبر الفلاح على زراعة القمح أو الذرة. وبالتالى لم يعد الفلاح لديه من الدقيق ما يمكنه من صنع عيشه. كما أدت تلك السياسات إلى تفاقم مظاهر الفقر والعوز فى الريف. «وعاوزنا نرجع زى زمان؟»

لم يعد هذا ممكنا. فقد أظهرت أحدث الدراسات التى قامت بها الحكومة بالتعاون مع البنك الدولى تركز الفقر فى المناطق الريفية، حيث يعيش أكثر من ثلثى الفقراء المصريين فى الريف وخصوصا فى الصعيد. وذلك بينما تتركز المخابز فى المدن، وخصوصا فى تلك الأحياء المخططة، بينما تندر أفران الخبز المدعوم فى المناطق العشوائية التى تؤوى معظم فقراء المدن. وهكذا تتبدى معضلة جديدة. فالعيش المدعوم يذهب إلى متوسطى الحال، بينما يظل الفقراء محرومين منه، يعانون جوعا وسوء تغذية.

يطرح حاليا مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء أن يباع الدقيق بثمنه الحقيقى إلى المخابز، وأن تنتج المخابز بدورها خبزا يباع أيضا بثمنه الحقيقى. وهو بالمناسبة يتراوح بين 13 قرشا و17 قرشا، بحسب دراسة اعتمدت على بيانات وزارة التضمن الاجتماعى. الدراسة صدرت فى فبراير الماضى عن بنك الاستثمار المصرى سى آى كابيتال. ولكن إذا بيع بثمنه الحقيقى فكيف يحصل عليه من لا يملك ثمنه؟

وهو المقترح الذى تجبن الحكومة عن تنفيذه: أن يباع الخبز فى كل أنحاء البلاد، بسعره فى جميع المحال والسوبر ماركت. على أن يتم توزيع كوبونات على «معدومى» الدخل تمكنهم من شراء الخبز من أى محل تجارى مقابل خمسة قروش، على أن يقدم للمحل الكوبون. ثم يحصل المحل فرق الثمن نقدا من الحكومة فور تقديمه الكوبونات. وهو نظام شبيه بنظام الدعم فى الولايات المتحدة.

ولم يعد تحديد من هم الفقراء مشكلة أمام صانع القرار المصرى. فلديه الآن خريطة مفصلة للفقر فى مصر: أعداد الفقراء ودخلهم وأماكن تركزهم فى الريف والحضر. وهو مما يمكن البدء به. فلم لا تبدأ الحكومة؟ لعل السبب يكمن فى التناقض المذهبى بين مجموعة جمال مبارك ومجموعة حسنى مبارك.

فبالنسبة للمجموعة الأولى، مدعومة بالبنك الدولى، فإن الأولى بالدعم من وجهة النظر الاقتصادية هم الأكثر فقرا، وهم ليسوا بالقليلين. فواحد من كل خمسة مصريين لا يجد ما يشبع جوعه، وهم حوالى 16 مليون مصرى لايستفيدون من دعم الخبز. أليس هؤلاء أولى بدعم الخبز من غيرهم؟ ليس بالنسبة للفريق الثانى، فريق مبارك الأب، خبراء الاستقرار السياسى.

فوفقا لهذا الفريق، اعتبارات الأمن السياسى تحتم الحفاظ على من هم يتأرجحون على حافة الطبقة الوسطى. أما الفقراء فهم يمتازون بالمثول والخضوع. فحتى لو زادت ظواهر العنف الفردى، فإنه ليس موجها ضد الدولة. فى حين أن الطبقة الوسطى صارت ذات صوت أعلى. فبيانات البنك الدولى تشير إلى فئة تشمل خُمس المصريين هى الطبقة الوسطى الدنيا أو على «الحركرك». أى زيادة شهرية فى إنفاقهم بمعدل يقل عن جنيه، ينقلهم إلى ما دون خط الفقر. فنتيجة العديد من السياسات الخاطئة، وعلى رأسها إهمال التعليم، فقدت بالفعل الطبقة الوسطى العديد من امتيازاتها. فالإنفاق على التعليم يلتهم ثمانية مليارات جنيه مصرى سنويا من جيوب الأسر المصرية التى تنتمى لتلك الطبقة، مما يشكل ضغطا مهولا على ميزانياتها. ومع تسارع السياسات الرأسمالية منذ تولى حكومة نظيف، فقد رأينا أن مختلف حركات الاحتجاج فى السنوات الخمس الماضية تقوم بها جماعات مختلفة من الطبقة الوسطى. إذا وفقا لاعتبارات الأمن، لا يجب الضغط عليها فى لقمة العيش بالمعنى الحرفى.. وهكذا نتوقع أن يبقى الدعم متسربا إلى التجار، والفقراء لا يجدون الخبز.. إلى أن تنقلب الأوضاع، أى منقلب.

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات