«أمطار صيفية».. العالم على أجنحة الموسيقى! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 4 أكتوبر 2024 3:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أمطار صيفية».. العالم على أجنحة الموسيقى!

نشر فى : الجمعة 27 أبريل 2018 - 8:55 م | آخر تحديث : الجمعة 27 أبريل 2018 - 8:55 م

حينما تأتى الجوائز الإبداعية بما تحمله من شهرة ومال، فإنها تأتى لتعترف فقط بالقيمة التى يحملها العمل الفائز أو من المفترض أن يحملها، ولا يمكن لجائزة؛ أى جائزة أن توجد هذه القيمة من عدم، أو تحمل جمهورا من القراء على الاعتراف بنص يخلو من القيمة ومن الجمال.

دائما ما كنت أكرر هذه الفكرة بإلحاح على مسامع أصدقائى من الكتاب الواعدين النابهين، أكرر وأعيد أن قيمة عملك الأصيلة فى قدرته وصموده أمام الزمن، وفى أن يحظى بقراءة جادة وحقيقية تكشف عن جمالياته ورؤيته للعالم.

أقول هذا الكلام بعد ما تحقق ما كنا نأمله ونتمناه من فوز رواية «أمطار صيفية» للكاتب الموهوب أحمد القرملاوى، بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الشباب؛ وهى جائزة كبيرة ذات قيمة مالية ضخمة.

قبل ست سنوات، نشر القرملاوى، مجموعة قصصية بعنوان «أول عباس»، ثم أصدر روايتين «التدوينة الأخيرة»، و«دستينو»، حقق خلالها نجاحا ملحوظا، ولفت الانتباه بحساسية فنية خاصة ولغة جزلة رصينة تعود بجذورها إلى ينابيع شعرية فى روح وعقل كاتبها، وأخيرا بمزج واضح بين التأملات الذاتية والاستبطان الداخلى، وطرح أسئلة إنسانية بسيطة للغاية لكنها تكتسب خصوصيتها من طرحها فنيا وجماليا بصورة بديعة ومختلفة.

وفى 2016 خرج القرملاوى بروايته «أمطار صيفية» (عن الدار المصرية اللبنانية) التى تدور أحداثها فى عالم خاص، تعبقه ألحان أوتار مشدودة، تتصاعد نغماته إلى السماء تطرب وتشجى كأنها تبتهل إلى الله أن يستمع أنينها وشكواها، وتتضرع أن تخلص من هذا العالم بزيفه وصراعاته، إشكالاته ونفاقه، وتطرح مناجاة خاصة للمسرات والأحزان.

وبعد أن أنهيت الرواية فى جلسة واحدة، لم أتفاجأ برأى الكاتب القدير إبراهيم عبدالمجيد على غلاف الرواية: «هذه رواية رائعة، فى لغتها وتكوينها، عن الموسيقى، بلغة تحاول وتنجح أن تكون لها إيقاعات أسمى من الأرض. جديدة إذا فى موضوعها.. هل للموسيقى مكان فى هذا العالم؟ بمعنى؛ هل للروح مكان فيه؟ الإجابة لا، لكن بعد أن تكون حصلت على متعة هائلة من القص والصور الفنية، ومن الأحداث أيضا. هذا الكاتب يغامر بخبرات جميلة ومعرفة عميقة بالفنون والآداب، لتقديم شكل روائى مغاير وممتع. استمتعوا بالوكالة المفتوحة على السماء، فللموسيقى أجنحة تستقر بها فى أى مكان وزمان».

نعم. فى «أمطار صيفية»، يوجه القرملاوى التحية إلى فن عريق وخبرة إنسانية رائعة؛ عالم الموسيقى والألحان والأنغام، وما يشتمل عليه هذا العالم من مفردات تشكله وتتصل به؛ الآلات الموسيقية بالأخص، وفى القلب منها «العود» الذى تبدو خبرة الكاتب به وبتفاصيله غنية ووافرة. وعبر خطين سرديين متوازيين، يتقاطعان فى مواضع وينفصلان فى أخرى، ينسج القرملاوى خيوط روايته التى تدور فى فضاء تراثى يعود إلى قرون خلت، اسمه «وكالة الموصلى»، تتلاقى فى فضاء الوكالة وتتقاطع مسارات شخوص تلتقى وتتواجه وتشتعل صراعاتها الداخلية والخارجية وتتأجج حتى تصل إلى ذروة المأساة فى نهاية الرواية.

وبين الموسيقى والتصوف، الأنغام والذكر، الروحانية المحلقة والواقعية المجردة، تظهر تلك الثنائيات فى أبعادها الدلالية العميقة عبر حركة شخوص الرواية التى يتصدرها «الشيخ ذاكر» صاحب الوكالة وشيخ الطريقة، وابنته الرقيقة الحالمة «رحمة»، وابنته السرية الألمانية «زينا»، و«يوسف» الشاب الرقيق الحالم أيضا الذى يتصدر منصة التدريب وتعليم عزف العود للمريدين، وأخيرا قسيمه المناقض «زياد» الذى تتغلب شروره على جانبه المضىء فيكون السبب فى حلول اللعنة ووقوع المأساة.

برزت مواهب القرملاوى التصويرية جلية؛ وقدرته على التقاط اللحظات الخاصة وتحليلها ورسم نماذجه البشرية، وخلق الجو العام باللون والصوت والحركة، كما تبدو قدرته على خلق بناء محكم ونسج لغة شعرية مكثفة، ناعمة ومنتقاة، مولعة بالوصف، مهووسة بجماليات البلاغة الكلاسيكية، مع إشراقات تنبئ بومضات شعرية أصيلة، تبشر بامتلاك المهارات والقدرة على تطويرها فى ما هو قادم من أعمال.

ربما تكون أسوأ قراءة لهذه الرواية تناولها من منظور دينى، أو أخلاقى بحت، أو جرها لتكون ساحة مواجهة مباشرة بين الروحانية والمادية، أو بين الحس الأخلاقى المثالى والانفلات منه، أو بالجملة اختزالها فى ثنائيات متقابلة فى صورتها المباشرة، ستكون هذه المداخل التقليدية (فلنقل الساذجة) حجابا كثيفا يحول بين رؤية هذه الرواية فى صفائها ونقائها اللغوى والموضوعى الرائعين.

من أبرز المقاطع فى الرواية، تلك المشاهد التى كتبها القرملاوى حول تاريخ الوكالة وعالمها القديم، ومنشئ الطريقة، الشيخ الموصلى، تتبدى قدراته التخييلية وتأليف تاريخ محبوك، متخيل بالكامل، لنموذج تراثى أسطورى تنبهر بفرادته وتستمتع بتتبع سيرته دون أن تقع فى شراك الموازنة بين المرجع والخيال. ورغم صغر حجم الرواية نسبيا (222 صفحة)، ظهر احتشاد الكاتب بكامل وعيه وثقافته وخبراته الفنية فى عالم الموسيقى واللحن والنغم، أيضا فإن الرواية لا تمنح نفسها لقراءة متعجلة، أو سطحية، فكثافتها اللغوية وتداخل تفاصيلها، يستدعيان تركيزا ومتابعة كى لا تتوه الخيوط أو ينقطع خط القراءة العام.

لقد كتبت فى حينها معلنا حماسى للرواية وصاحبها «تعلن أمطار صيفية عن حضور روائى موهوب وحساس، تنضج موهبته ــ ما زالت ــ على نار هادئة وناعمة، استطاع توظيف خبراته الشخصية ومعارفه الموسيقية فى خلق عمل روائى بديع يتيح لقارئه متعة تواصل حقيقية مع
مفردات هذا العالم».

كل التقدير والتحية، وتهنئة خالصة للمبدع أحمد القرملاوى.