مقارنة بين ثورة 2011 وثورة 1952 - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 12:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقارنة بين ثورة 2011 وثورة 1952

نشر فى : الثلاثاء 28 أبريل 2015 - 9:25 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 28 أبريل 2015 - 9:25 ص

تُنسب إلى شواين لاى، رئيس الوزراء الصينى الشهير فى عهد ماوتسى تونج، إجابة طريفة عندما سئل عن رأيه فى الثورة الفرنسية، بعد أن مر عليها ما يقرب من قرنين من الزمان، إذ قال إنه لم يمر عليها بعد الوقت الكافى لإصدار حكم صحيح عليها! كان الرجل يتكلم بسخرية بالطبع، صحيح أن من الممكن جدا أن يتغير حكمنا على أى حدث مهم كلما مر عليه الزمن، ولكن هذا لا يصلح مبررا للإحجام عن تقييم الحدث، مهما كان قصر المدة التى انقضت على حدوثه. بل ان الأحكام المختلفة، مهما تغيرت مع مرور الوقت، تظل ذات قيمة، إذ قد تحمل جزءا من الحقيقة فى كل مرة، وان لم تكن الحقيقة كاملة، بل وقد يعود الناس إلى التساؤل بعد مرور وقت أطول عما إذا كان التقييم الأقدم هو الأقرب إلى الصحة. وعلى سبيل المثال، إن ما قاله المعلقون، بل والمفكرون عن الثورة الروسية بعد عشر سنوات من قيامها فى ١٩١٧، اختلف بشدة بعد أن رأوا ما ارتكبه ستالين من فظائع بعد ذلك بعشر سنوات أخرى، كما لابد أن يختلف عما أصبح يمكن قوله بعد سقوط الاتحاد السوفييتى بعد تلك الثورة بسبعين عاما، ولكن ألم يتساءل كثيرون بعد مرور عشرين أو ثلاثين سنة على وفاة ستالين عما إذا كان ما ارتكبه من فظائع «ضروريا» لكى تصبح روسيا دولة عظمى؟

•••

ها قد انقضى أكثر من أربع سنوات على قيام ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ فى مصر، وأعتقد أنها ليست فترة قصيرة لدرجة تمنع المرء من إصدار أى حكم عليها أو تقييمها. ومن ثم خطر لى أنه ليس هناك ما يمنع من المقارنة بينها وبين الثورة المصرية فى ١٩٥٢، التى مر عليها أكثر من ستين عاما، بل وقد تكون هذه المقارنة مفيدة فى اكتشاف بعض السمات المهمة لكلتا الثورتين.

فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، أصابتنا دهشة شديدة إذ سمعنا من الراديو أن الجيش قد استولى على الحكم فى مصر، واستمرت وسائل الإعلام تسمى ما حدث «حركة الجيش» أو «الحركة المباركة»، حتى بعد عزل الملك فاروق فى ٢٦ يوليو.

كان ما حدث هو بالفعل حركة عسكرية، قام بها بعض الضباط الذين سموا أنفسهم «الضباط الأحرار»، واقتصر دور الشعب فيها على الترحيب بها، فانهالت برقيات التأييد على الضباط، ولم يخطر على بال أحد من هؤلاء الضباط تسمية ما حدث «ثورة»، إلا بعد بضعة شهور، وبعد أن بدأ يظهر أن ما قام به الضباط قد يرقى فى مداه وعمق تأثيره على المجتمع، إلى ما يستحق هذا الوصف.

قارن هذا بما حدث فى أعقاب ثورة ٢٠١١. لقد بدأ الأمر فى ٢٥ يناير وهو يحمل كل مظاهر الثورة: حجم المشاركين فيه، تنوع الطبقات الممثلة، الاتفاق التام بين المسلمين والأقباط على تأييد ما حدث، واشتراك النساء إلى جانب الرجال، مع انتشار ذلك فى مختلف أنحاء البلاد، كانت انتفاضة شعبية بكل معنى الكلمة، مما جعلها تستحق وصف الثورة، وهو ما لم يحدث فى ٢٣ يوليو، فضلا عن نجاحها فى ١١ فبراير فى اسقاط رأس النظام واستبعاد رموزه. ولكن الذى حدث بعد ذلك كان العكس بالضبط مما حدث فى أعقاب ٢٣ يوليو.

خلال هذه السنوات الأربع، استمر الرئيس المعزول يتنقل من السجن إلى المستشفى، ثم إلى السجن فالمستشفى، إلى أن أعلنت براءته من تهم كان من أسهل الأمور إثبات براءته منها، وهى تهم تتعلق بما فعله أولم يفعله بعد الثورة (هل أمر بقتل المتظاهرين أو لم يأمر؟) بينما تركت جميع الأخطاء الكبرى التى ارتكبها هو ونظامه، خلال ثلاثين عاما، وكانت هى أسباب الثورة، دون محاسبة.

قيل أيضا كلام كثير عن استرداد الأموال المنهوبة والمهربة خلال حكم مبارك، وبلغت التقديرات عدة مئات من المليارات من الدولارات، تكفى لتمويل عدة مشروعات كبرى، وأبدت بعض الحكومات الأوروبية استعدادها لمساعدة الحكومة المصرية فى استعادتها، كتعبير عن تعاطفها مع ثورة شعبية، ولكن الحكومات المصرية المتعاقبة ثبت أنها ترفض المساعدة فى هذا الأمر.

خلال هذه السنوات الأربع أيضا، لا أذكر قانونا واحدا صدر مما يمكن اعتباره قانونا ثوريا، لا للإصلاح الزراعى ولا الصناعى ولا التجارى. أما السياسة الخارجية فقد تعاقب من المسئولين عنها رجال لايمكن وصفهم بالثورية، وحتى الرجل الوحيد من بينهم الذى اتخذ إجراءات جريئة سرعان ما نقل إلى منصب آخر فى الجامعة العربية، أعلى حقا من منصب وزير الخارجية، ولكنه يمتاز بأن الجالس فيه لا يمكنه، بسبب طبيعة المنصب نفسه، أن يتخذ أى قرار ثورى.

من القوانين التى صدرت خلال هذه السنوات الأربع، قانون بمنع التظاهر إلا بإذن (أى بتجريم عمل الثورة نفسه)، وقانون بتأخير الساعة ثم قرارات بتقديمها ثم تأخيرها لتسهيل مهمة الصيام على الناس، وقانون بإغلاق المطاعم والمقاهى فى العاشرة مساء، دون مراعاة لحالة البطالة السائدة، مما أدى إلى سحب القانون بسرعة ثم نسيانه...إلخ.

•••

لقد قيل فى تبرير هذا الأداء الغريب للحكومات المتتالية بعد ٢٥ يناير أن الخطأ يكمن فى الثوار أنفسهم. قيل انهم شباب لا رؤية واضحة لديهم، وغير متفقين على شىء، ولا حتى على زعيم، وشعاراتهم غامضة يمكن أن تحمل معانى مختلفة، ولا تعكس نظرة واضحة إلى المستقبل، ولا تحدد النظام الاقتصادى المنشود...إلخ. فما الذى يمكن أن نتوقعه منهم؟

وأنا أرفض هذا التفسير رفضا جازما. فهذه فى رأيى من سمات معظم الثورات، وإنما تتبلور كل هذه الأشياء مع مرور الزمن على بداية الثورة: الرؤية والزعيم وصورة المستقبل والنظام الاقتصادى المنشود. بل كلما كانت الثورة شعبية وجامعة لمختلف الطوائف والطبقات، كلما زاد احتمال وجود هذا التشتت فى البداية. ولكن دعنا أيضا نسأل: فى أى شىء من هذه الأشياء كان تفوق ما حدث فى ١٩٥٢ عما حدث فى ٢٠١١؟ الضباط الأحرار الذين قاموا بحركة ٢٣ يوليو كانت أيضا قلوبهم شتى، فكان فيهم الماركسى والإسلامى والليبرالى وعديم الفلسفة والأيديولوجية أصلا، كان أقواهم شخصية هو جمال عبدالناصر، ولكن هل ظهر من عبدالناصر وضوح الرؤية طوال الثلاثة أو الأربعة أعوام على الأقل، التالية لقيام حركة ٢٣ يوليو؟ كانت شعارات حركة يوليو عندما قامت ورددناها بحماس: «الاتحاد والنظام والعمل»، فهل هذه الشعارات أكثر وضوحا وتحديدا من شعارات ٢٥ يناير: «خبز وحرية وعدالة وكرامة إنسانية؟» بل ان السنوات الأولى التالية لحركة الضباط فى ٢٣ يوليو اتسمت ببعض السمات التى تتعارض مع ما حدث بعد ذلك، فأظهرت فى البداية ترحيبا برأس المال الأجنبى، وبالقطاع الخاص المصرى، ووضعت على قدم المساواة علاقات مصر بالدول العربية مع الدول الأفريقية والإسلامية، تغير كل هذا ابتداء من سنة ١٩٥٥، إذ رفعت بعد ذلك شعارات القومية العربية، وتبنت الحكومة الدعوة إلى الوحدة العربية، ثم أخذت بمبادئ التخطيط وبعض الأفكار الاشتراكية وحماية الاقتصاد الوطنى من المنافسة الأجنبية.

هل يمكن ان نستخلص من هذا أن مثل هذا التحول يمكن أن يحدث أيضا فى حالة ثور ٢٠١١؟ من الممكن للمرء أن يتمنى ذلك، لولا فارق مهم، وهو أن الظروف الدولية التى سادت ابتداء من منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، وساعدت على هذا التحول فى السياسة المصرية، مختلفة تماما عن الظروف التى تسود العالم اليوم. كان العالم منذ ستين عاما يسمح بوجود أمثال نهرو وسوكارنو وتيتو ونيكروما، وكانت القوى العظمى يحكمها أمثال خروشوف وكيندى وديجول. كما أن إسرائيل كانت لاتزال طفلة صغيرة لم تتم بعد عشر سنوات من عمرها، وكان أقصى ما تحلم به أن يعترف العرب بوجودها كدولة. لم يعد أى من هذا قائما فى عالم اليوم، ولكن هناك دلائل كثيرة على أن عالما جديدا مازال فى دور التكوين، وهو وإن لم يظهر منه أى بوادر تبعث على التفاؤل بمستقبل ثورة مصرية أو عربية، فإنه مع ذلك قد يكون واعدا بمختلف المفاجآت.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات