ثمة افتراض يقول بأن إنجاح الثورة يحتاج لتوافق قوى المجتمع كافة، وأن العقبة الرئيسة التى تواجهها هى الاستقطاب، وهو قول غير دقيق، فنجاح الثورة يحتاج لا للتوافق وإنما للاصطفاف على أسس ثورية، والعقبة الرئيسية التى تواجه الثورة ليست وجود الاصطفاف وإنما قيامه على أسس خاطئة، ومحاولة الدولة العميقة التفاوض على استبقاء وضعها.
فالثورة بالتعريف عمل جذرى، يختلف فى طبيعته عن التفاوض الذى يحتاجه بناء التوافق، ونجاح الثورات إنما يكون بتمكنها من السلطة لتعيد هيكلة الدولة وتنفذ البرامج السياسية التى تحقق مقاصدها بعدما تكون قد أقصت خصومها بالكامل عن مراكز صنع القرار، سواء كان هذا الإقصاء عن طريق العنف ــ كما هو الحال فى معظم الثورات ــ أو لم يكن، وسواء كانت مراكز القوى وصنع القرار التى تعوق الثورة فى داخل مؤسسات الدولة أو فى خارجها.
والثورة المصرية على وجه الخصوص لم تكن ذات طابع أيديولوجى أو طبقى معين فى بدايتها، وإنما كان المقصد الذى شكل القاسم المشترك الأعظم بين الأطراف المشتركة فيها هو استعادة سيادة الشعب، ليكون ــ بحق ــ مصدر السلطات، وهذا المقصد لم يتحقق إلى اليوم، إذ لا تزال الجهات غير المنتخبة تسيطر على صنع القرار فى الدولة، فالمجلس العسكرى لا يزال متمسكا بالسلطة التنفيذية، مصرا على استبقاء حكومة لفظها الجميع، سواء القوى الشعبية غير المنظمة، أو القوى السياسية البرلمانية، ولا تزال (الدولة العميقة) فى مصر كاملة الأركان لم تصل إليها الثورة، تنظر لنفسها باعتبارها وصية على الشعب، وتساهم بشكل كبير فى صناعة القرار السياسى، وتتحكم بشكل منفرد فى صناعته عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاستراتيجية.
وللدولة العميقة أذرع، أهمها الذراع المعلوماتية المتمثلة فى جهازى الأمن الوطنى والمخابرات (وثمة تسريبات لم يكذبها أحد للآن تقول إن الضباط المفصولين من الأمن الوطنى تم تعيينهم فى المخابرات، ليعملوا على نفس الملفات)، الذراع الأمنية المتمثلة فى الشرطة العسكرية والأمن المركزى، والذراع القضائية والمتمثلة بالأساس فى القضاة من ذوى الخلفيات الشرطية وهم كثر (ما نقله بيان الإخوان الأخير من تهديد البعض بتحريك قضية المحكمة الدستورية لحل البرلمان كاشف لبعض أوجه هذا التمدد للدولة العميقة فى القضاء)، والذراع الإعلامية والمتمثلة فى جل مؤسسات الإعلام القومى، وبعض الإعلاميين المفروضين فرضا على مؤسسات الإعلام الخاص، وهؤلاء تستخدمهم الدولة العميقة فى تبرير بعض المواقف أحيانا، وفى تفكيك الاصطفاف المناوئ لها أحيانا، وفى لفت الأنظار عن جوهر الصراع كثيرا، وهناك أخيرا الذراع المالية، وأهم أركانها المؤسسة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، إضافة لبنك الأراضى، التى يسيطر عليها العسكريون، والتى لا تخضع لرقابة المدنيين، والتى توفر الرعاية المالية المطلوبة للدولة العميقة، كما تساهم فى خلق قاعدة اجتماعية من المستفيدين منها.
وما تحاول هذه الدولة العميقة فعله هو (التوافق) مع الثورة، والوصول لحلول وسط تبقى لها ــ أى الدولة العميقة ــ السيادة على بعض الملفات على أقل تقدير، وما تحتاجه الثورة هو (اصطفاف) كل القوى الراغبة فى انتزاع سيادة الشعب لئلا ينجح مثل هذا التفاوض، الذى هو عين الفشل للثورة، والاصطفاف اللازم غير حاصل لأسباب، منها الانشغال عنه باصطفاف آخر، أقل تأثيرا على مجرى الأمور، وهو ذاك المتعلق بالهوية، إذ يؤدى لنزاع بين طرفين على سياسات حكم فى ظل سيطرة أطراف غيرهما على مقاليد الأمور.
ومما يساهم فى قيام الاصطفاف على أسس غير ثورية كذلك أن الدولة العميقة ــ كما سبق ــ تستخدم ذراعها المالية فى صناعة قاعدة دعم اجتماعى، إذ يؤدى تشابك المصالح الاقتصادية ــ من توظيف لعقود بيع وشراء وحقوق انتفاع وغيرها ــ لأن يحرص البعض ــ مع ظاهر انتمائهم للمعسكر الثورى ــ على بقاء الدولة العميقة أو على الأقل بعضها، كما أن الدولة العميقة تستخدم قوتها الناعمة وسلطتها التنفيذية فى تقديم بعض المعارك وتأخير بعضها، كالتعجيل بكتابة الدستور ــ وهى عملية تستلزم سعيا نحو التوافق بين القوى المجتمعية على اختلاف موقفها من الثورة ــ لتتوازى مع الانتخابات الرئاسية ــ وهى معركة لو انصب الجدل حولها فيمكن أن تساهم فى تراجع معسكر الدولة العميقة وانحساره.
كما أن بعض الساسة ــ رغم اختلافه مع توجهات الدولة العميقة ــ فإنه مثلهم لا يؤمن بسيادة الشعب، ويؤمن بتضييق دوائر صنع القرار وإبقائها فى إطار النخبة لأن الشعب ــ فى تقديرهم ــ لم يبلغ بعد رشده السياسى، ولذلك فإنهم وإن وافقوا الجماهير الغاضبة فى موقفها من الحكام، فإنهم لا يقبلون بمساندة هذه الجماهير، خوفا من أن تنتقل إليها ــ بحق ــ السيادة.
إن معركة استعادة سيادة الشعب ــ التى هى جوهر الثورة، والتى ينبغى أن يقوم الاصطفاف الرئيس على أساسها ــ تتفرع عنها مباشرة معارك أخرى، أولها الموقف من «الخارج» وتأثيره فى صناعة القرار الوطنى، وهو موقف يتجلى فى السياسات والخطابات التى تنتهجها الأطراف المختلفة تجاه الخارج، وثانيها الموقف من العدالة الاجتماعية ــ التى هى عمود فقرى لا يمكن للمجتمع أن يتماسك ويحافظ على سيادته بدونها ــ وهى أيضا شديدة الاتصال بالموقف من الخارج تأثيرا وتأثرا، وحول هذه المعارك ينبغى أن يكون الاصطفاف، وفى داخل المعسكر الواحد ينبغى بناء التوافق، بدلا من السعى لبنائه على حساب اصطفاف المعسكرات.
لا شك أن بقاء الاصطفاف الحالى لا يخدم الثورة، لأنه لا يقوم على أساس الموقف منها، غير أنه يضر الثورة أيضا أن نحاول إنهاء الاصطفاف بالكامل قبل أن تتمكن الثورة من مرادها، وأن يُغَّلَب السعى للتوافق على السعى لإنجاح الثورة، إذ هذا يعنى وأد الثورة وتحويلها لعملية إصلاحية تغير بعض أشكال فساد النظام السياسى من غير أن تمس جوهره، وهو ما يعنى أن الحاجة للتغيير ستبقى قائمة تنتظر لحظتها التأريخية، وأن الاستقرار المنشود إذا لن يتحقق.