موتوا بهدوء.. من فضلكم! - حسام السكرى - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 3:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

موتوا بهدوء.. من فضلكم!

نشر فى : السبت 29 ديسمبر 2018 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 29 ديسمبر 2018 - 10:34 م
قلب لندن مقفر. لا أحد سواي في كنج ستريت. هذه ليلة عيد الميلاد والعائلات هجرت الشوارع إلى لقاءات العشاء المنزلية.
أقف أمام مدخل بناية مظلم بالقرب من متسولة شريدة غارقة في الأغطية.

توقف باص صغير فجأة.
السائق مسن ستيني. يجلس إلى جواره شاب يرتدي ملابس رياضية شد على رأسه غطاء صوفيا سميكا. قفز الشاب من العربة وهرع بخفة نحو المتمددة في مدخل البناية.

- أيها النائم!! استيقظ؟

ضغط على هاتفه المحمول فانطلق شعاع مقتحم.

رفع صوته:

- أنت!!

جسدها ساكن.

أخرج من العربة ربطة تضم بطانية وأغطية.

ألقاها في المدخل. ارتطمت بالأرض مصدرة فرقعة عالية. لا حركة. عاد إلى عربته وانطلق مسرعا.

توقفت العربة بنفس الرعونة أمام بناية غير بعيدة. تحركت نحوها بهدوء. نزل الاثنان. افترش الشاب الأرض. رفع المسن محموله ليسجل مقطع فيديو. ارتفع صوت الشاب:

- بن.. اقترب. ينبغى أن يملأ جسدي برواز الكاميرا.

اطمأن لجودة الصورة ثم بدأ الحديث بصوت مرتفع:

- قضيت سنوات من شبابي هنا. عرفت معنى أن تكون مشردا ووحيدا. بلا عمل. بلا أهل. بلا مال. بلا دفء. وبلا رغبة في الحياة. تجلسون في هذه الأمسية مع عائلاتكم وتحتفلون بالمناسبة المبهجة، فيما يوفر كرمكم الغطاء والدفء لعشرات من المحتاجين في شوارع خبرت بنفسي برودتها في هذا الوقت من العام. ميري كريسماس لكم جميعا وشكرا.

نهض.

لمحني فصاح:

- انت؟ الواقف في الركن هناك. هل تحتاج مساعدة؟ تحتاج شيئا من الدفء.

- نعم

- لحظة. سأحضر لك بعض الأغطية

- عفوا. لم أقصد. هل تحملون طعاما؟

- جائع؟ لا يوجد لدينا طعام. معنا أغطية. انتظر. وضع يده في جيبه.

- معذرة. انا مرتبك. الأمر بسيط. أحضرت طعاما للسيدة التي ألقيت انت لها الأغطية. لكنها لا تحتاجه. بجوارها كيسان ممتلئان. لا يوجد آخرون مثلها على مقربة. ولا أعلم إن كنت تستطيع أن.. هل تعلم؟.. لا يزال دافئا.. ليس هذا ما تبقى من عشائي.. لقد اقتسمته قبل أن.. هل تأخذه معك؟

حدق الرجل في وجهي برهة. ثم اقترب. عيناه دامعتان.

- هل تعرف؟ عندما كنت أجلس هنا. في تلك البقعة ذاتها. كان ما احتجته حقا أن يشعر بي أحدهم. أن يلقى التحية. هل تعلم كم من الناس مروا بي؟ لم يشعر أحدهم بألمي. وجودي كان يزعجهم. كانوا يريدونني أن أختفي تماما. لا يهمنا أن تموت من البرد، فقط لا تفعلها هنا من فضلك. مت في هدوء دون أن نراك.

خنقته العبارة.

طوقني بذراعيه.

كنت أراه بصعوبة من خلال عيني الدامعتين. اختطف كيس الطعام. ودعني وهو يتحرك نحو العربة:

- سيصل عشاؤك إلى من يحتاجه.

قفز في العربة التي انطلقت مسرعة.

علا نفيرها عندما مرت بي.

رفعت يدي محييا دون أن أحول وجهي.
أحكمت الوشاح حول عنقي لأتقي البرد.
واصلت المسير.
التعليقات