العالم الأول والعالم اللى مش أول… - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العالم الأول والعالم اللى مش أول…

نشر فى : السبت 29 ديسمبر 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 29 ديسمبر 2018 - 10:36 م

منذ عام في نفس هذا الوقت كنت أحضر عرضاً غنائياً لخريجي مدرسة غناء أوبرالي خاصة تملكها وتديرها فنانة أوبرا مصرية قديرة، كان العرض في أحد مسارح الدولة ولم أجد تذاكر في القاعة الرئيسية فاشتريت تذاكر لي ولأسرتي في البلكون. الحفل كان أكثر من رائع، شباب واعد من الطبقة المتوسطة والفوق متوسطة المصرية، من الواضح أنهم تعلموا في مدارس لغات وليست بالضرورة دولية وأن أسرهم قرروا أن يشجعوهم على تنمية موهبة الغناء. أصوات وأداء لا يخرج إلا بعد تدريب ساعات طويلة لسنوات بجدية والتزام تام، وشغف كبير مُعدى لمن يشاهد ويسمع.

لكنى للأسف لم أستمتع، فالبلكون له بابين على جانبيه كلما فُتحا أصدرا صوت صرير مزعج، والمشاهدين يدخلون ويخرجون طوال العرض ويتحركون أمامنا ويصعدون السلالم وينزلونها بجوارنا مصدرين أصوات بأقدامهم. المسرح عريق وجميل والجهة التي تديره جهة محترمة عادة ما تمنع تماما التحرك أو الدخول بعد بدء العرض. لكن في هذا اليوم كان موظفي المسرح واقفون على البابين يسمحون بالخروج والدخول حتى بعد شكوى العديد من الحضور. أصبح المشهد به عالمين مختلفين تماما: عرض مبهر عالي المستوى وقاعة جميلة وراقية لا يقلوا عما رأيته في مسارح لندن ونيويورك. ثم موظفين وبعض السادة الحضور تصرفاتهم الشخصية واحترامهم لما يحدث على المسرح  لباقي الحضور لا يرقى إلى مستوى متحضر. "عالم أول" متذوق للفن محترم لحق الغير في مشاهدة مستوى أداء عالٍ محافظاً على احترامه لموهبته ولمهنته، و"عالم ثالث" لا يُثَمِن هذا الجمال ولا يتفهم شكوى الحضور من الضوضاء والإزعاج ولا حتى يكترث إلى اتهامه بعدم أداء وظيفته بشكلٍ مرضٍ أو غير مهني. العالمين لا تفرقهما المسافة الجغرافية فهما ينبعان من نفس البيئة والحضارة والثقافة وإنما تفرقهما مسافة إنسانية مرتبطة بنمو الذات وتحقيقها.

***

عندما قصصت ما حدث على ابنتي وحكيت لهما عن انطباعي هذا أعطوني درساً "كالعادة" في أنه لم يعد مقبول دبلوماسيا أن تُصَنَف الدول والشعوب إلى عالم أول     وثالث لأن هذا تصنيف فيه تعالى وعنصرية واخترعه المستعمر ليقنعنا بعدم قدرتنا على اللحاق بالركب الحضاري. وأنا متفهمة تماما لهذا التناول لكن التساؤل بقى بداخلي، ما هي الظروف التي تدفع فرد أو شعب أن يخرج أفضل ما بداخله وبذلك تنقله من "العالم النامي" إلى "عالم نمى بالفعل" ثم أثرى شعوب أخرى وأجيال تلته بالمعرفة والفنون والانتاج التكنولوجي وأمن لهم الغذاء والطاقة والماء في حين بقى العالم النامي بشعوبه يصارعون أمواج الفقر والمرض والعوز آملين فقط أن يطفوا بالكاد جيلهم.. إلخ

بحثت فوجدت أنه في الخمسينات من القرن الماضي أسس عالم سلوكيات اسمه ماسلو “Maslow”  نظرية كرس حياته لدراستها وبلورتها وشرحها وأتى بعده أجيال من الباحثين أعادوا تحليلها ونقدها. تقول النظرية أن من أجل "تحقيق الذات" للفرد وبالتالي للشعوب لابد من إشباع سلسلة من الاحتياجات محفزة لتطور الفرد قسمها إلى "احتياجات تسد نقص" أي أنها احتياجات أساسية نشترك في كثيرٍ منها مع كائنات أخرى، وهي احتياجات من الممكن إشباعها كلياً أو جزئياً وكلما أشبعت كلما قل احتياجنا لها واهتمامنا بها، أولها الاحتياجات الفسيولوجية كالأكل والشرب والجنس والراحة،  فمثلا إذا أحسسنا بالجوع وأكلنا اختفى احتياجنا للطعام لفترة كذلك العطش والجنس والراحة.. إلخ. يليها في المرتبة لكن في نفس المجموعة الأولى هو الاحتياج للإحساس بالأمان فالإنسان يحتاج أن يطمئن إلى صحته وإلى سلامته البدنية وألا يخشى المجهول والمستقبل وأن يحس بأمان جسدي وغذائي وعاطفي له ولأبنائه على المدى الأطول حتى يبذل جهد في تطوير نفسه،  ثم يأتي الاحساس بالانتماء في المرتبة التالية والذى يملأ لدينا وعاء الحب والثقة والقبول من خلال العلاقات المختلفة سواء كانت داخل الأسرة بين زوجين أو مع الأطفال أو بين الأصدقاء أو في دوائر العمل والدراسة والمجتمع، وأخيرا يأتي الاحتياج إلى الاحترام (والذى اعتبره احتياج أساسي) وقسمه إلى درجة أولية هي محاولة كسب احترام الآخرين بوضعنا الاجتماعي أو المادي أو السلطة التي نمارسها على الآخرين ودرجة أعلى حيث يسعى الفرد إلى الاحساس باحترام النفس وتقديرها عن طريق الاجتهاد والتميز في مهنة أو هواية أو خدمات يقدمها أو طريقة تعامل يؤمن بها وترضيه عن نفسه. كل ما سبق هي احتياجات أساسية حتى لو كانت كدرجات الهرم في ترتيبها كأولويات لبقاء النوع البشرى لكنها في الآخر تسد فراغ لدينا وليست كافية لدفعنا إلى النمو وتحقيق أقصى قدراتنا والتي ميزنا بها الله على مخلوقاته الأخرى.

مجموعة الاحتياجات التالية هي  "مّحَفِزَة لبناء وتطور النفس"  و هي مرتبطة بقدرتنا على التخطيط للمستقبل والمساهمة في تغييره، أحد أهم القدرات التي تميزنا على الكائنات الأخرى، هذه الاحتياجات غير مّشبِعة فاحتياجنا لها يزيد كلما غذيناها، وهي مرتبطة باحتياجنا للعلم والاستكشاف والبحث وشغف المعرفة، ثم يأتي في مرتبة تليها احتياجنا لتذوق الجمال سواء في الطبيعة أو الفن أو النظام أو التوازن أينما كنا. ومع مرورنا بهذه المراحل من الإشباع نصل إلى مرحلة "تحقيق الذات" فنستطيع أن "نصبح كل ما في قدراتنا و مهاراتنا ومواهبنا وجيناتنا" أن نصبحه ونحققه.

 

فقط بعد إشباعنا لهذه الاحتياجات نستطيع أن نحقق ذاتنا، أن ننمى قدراتنا ومهارتنا ومواهبنا التي أنعم الله علينا بها فنصبح "أنفسنا" أو أفضل صورة للنفس، فنصبح "أم أو أب مؤثرين في أبنائنا وأحفادنا"، "معماري فذ"، "عازف بيانو مبهر"،  "نختار الزوجة التي نسكن إليها"، "نجار ماهر"، " طبيب مميز"، "نكتب الكتاب الذى يحمل أفكارنا"، "قائد ملهم" ….إلخ، فالتحقيق غير مرتبط بالمجال الذى نحققه فيه، فكل منا أتى الدنيا لغرض مختلف، والاختلاف هو الذى يحقق التكامل، لكن المحك في أن "نتحقق" وأن نفعل ذلك إلى ”أفضل وأبعد حد" تسمح به قدراتنا.

***

وفي النهاية بعد مرحلة تحقيق الذات هناك درجة أعلى وأسمى والتي يمتد فيها التحقيق ليشمل "الآخر" فنتجاوز هدفنا بتحقيق ذاتنا لنخدم بهذا التحقيق الآخرين فنصل إلى أعلى درجات الإشباع والامتلاء مع قدرتنا على العطاء في مجالنا ومن أنفسنا ومن خبراتنا، وهي مرحلة فيها روحانية عالية وقدر من الشفافية.

نظرية ماسلو لها مؤيدين و معارضين، قّتِلَت بحثا وتم تطويرها، وهذا ليس مجال مناقشتها علميا، لكنها تدفعنا أن نتناول نظرتنا لأنفسنا، لمجتمعنا، لحالنا بشكل مختلف، قد تساعدنا على فهم ما نحن فيه، وقد تساعدنا على وضع أيدينا على أولوياتنا، وإذا لم تفعل على مستوى مجتمعي فعلى الأقل بداخل أسرنا ومع أطفالنا.

 

فلنؤمن أولا أن بداخل كلٍ منا طاقة فذة وقدرة على الإبداع والتفكير والعمل يحتاجها العالم وتحتاجها بلادنا، لا فارق بين شخص وآخر في وجود هذه الطاقة بداخله لكن الفارق هو في فرصته لإشباع الاحتياجات التي تسمح له بتحقيق ذاته والبحث عنها. فلندعو الله مع بداية عام جديد أن يكون لكل أبنائنا فرصة تحقيق ذاتهم فيفيضوا بما مَن الله عليهم من نعم فتغمرنا وتنير مجتمعنا ونساهم في إضاءة العالم كما ساهمت مصر قرون وقرون.

 

 

 

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات