أبناء وقمصان - داليا سعودي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 2:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أبناء وقمصان

نشر فى : الجمعة 30 أكتوبر 2015 - 12:35 م | آخر تحديث : الجمعة 30 أكتوبر 2015 - 12:35 م

ــ «بأى لغة يتكلم قميص الابن الغائب؟».
طالعتُها شاردة وأنا لا أكاد أفهم مغزى السؤال. تراءت لى بعينيها المتورمتين وصوتها المتهدج فى صورةٍ لم أعهدها عليها من قبل. بدت لى فاقدةَ الصوابِ، تغشاها كآبة، منذ حمل ابنُها حقيبته وسافر إلى القارة البعيدة.
ــ ها أنا أُجرب مشاعر أم موسى، قالتْ، وأُدرك معنى فراغ القلب إذ تقذف برضيعها فى اليمِ هربا من فرعون. بتُ أفهم كيف لقميص يوسف أن يرد يعقوب بصيرا، بعد أن تواطأ الدمع والسهد على عينيه، وإن بقى الأمل يغذى الصبر الجميل، فإذا بالقميص يأتى بشيرا عبر الصحراء بالريح الزكية الشافية.
ــ القميص يتكلم، قالت. حين أفتح الخزانة وأطالع القمصان المتبقية، تنساب إلى الغرفة ضحكات ابنى المبتهجة، وأراه وقد عاد طفلا جميلا يملأ البيت مرحا وحياة، وعاد معه زمانٌ كنتُ فيه أنا عالمه. القميص يتكلم، أقسم لكِ، تلتقط كلماته أذنُ الأم الصابرة وبصيرةُ الأب المحتسب.

•••

يا للمسكينة المدللة! قلتُ فى نفسى بعد أن غادرتها، يكاد عقلها يشت وهى لم تذُق سوى مرارة الافتقاد، فكيف بمئات الآلاف من الأمهات والآباء على امتداد أوطاننا العربية ممن يكابدون لوعة الفقد؟ ممن خرجت فلذات أكبادهم يوما تطالب بالحرية ولم تعد. وعادت القمصان مثقوبة بالرصاص أو مشربة بالدماء، أو كانت القمصان هى المشكلة فغابت وغابوا وراء القضبان.

•••

هل أذكِر صاحبتى بشهداء الثورة فى المحروسة ممن اغتيلوا جسديا ومعنويا مئات المرات على مدى الأعوام الخمسة الماضية، أم أذكرها بعشرات الشباب المختفين قسريا، ممن لا تعترف السلطة الرسمية باحتجازهم وبالتنكيل بهم فى السراديب المخفية تحت الأرض والمعتقلات المنسية وراء الشمس؟ أم أذكرها بالأطفال المحتجزين لأجل غير مسمى مثل الصبى محمود محمد الذى تلخصت جريمته فى ارتداء قميصٍ يحمل أُمنية بوطن ينبذ التعذيب؟ ترى كيف هى مشاعر والديْه والصغير مكبل فى زنزانته منذ أكثر من 666 يوما بلا محاكمة؟ أكاد أسمع أم محمود تلعن القميص وسط دموعها.. ليتنى ما غسلته... ليتنى ما كويته... ليتنى مزقته وأمرته أن يؤثر السلامة... ألا يكتب أحلامه على قمصانه... بمثل ما كان يرسم فى طفولته أبطال خيالاته على جدران البيت... ليته نبذ التمرد ومشى لصق الحائط مثلما فعلنا جميعا أجيالا وراء أجيال... لكنها سرعان ما تسترد رباطة الجأش التى أورثتها الصغير.. فتستغفر وتحوقل وتفرد سجادة الصلاة.

•••

أم يجدر بى اصطحاب صديقتى إلى فلسطين حيث فدائى وانتفاضة المدى يعزفون وذويهم أقوى ألحان المقاومة ضد نظام الاحتلال الصهيونى العنصرى، حيث أوسلو تتلفع بأكفانها والفراق يرتدى قميص الفداء. «يا بنى افعل ما شئت ستجدنى إن شاء الله من الصابرين»، ذاكم لسان حال الأم الفلسطينية وهى تودع ابنها وهو خارج للدفاع عن المسجد الأقصى أو لقتال المستوطنين البرابرة. «كون زلمة يما»، تقولها للصغير وجنود الاحتلال يجرونه إلى المعتقل تحت وابل الشتائم وضربات الهراوات. وأما القميص فيأتيها ممزقا ملطخا بالدماء الطاهرة. أو قد يحتجزه الأوغاد لسنوات، مثلما فعلوا بملابس الشهيد موسى الضراغمة بعد أن قتلوه، واختاروا أن يسلموا ملابسه إلى ذويه فى يوم عرس ابنه، بعد أربعة عشر عاما من استشهاده ليفسدوا على ذويه فرحتهم. يومها، فضت أم موسى الكيس بقلب عامر بالإيمان. أخرجت الحذاء المهترئ والقميص القديم الغارق بدم ابنها، لثمته، ورفعته على عصاها التى تتوكأ عليها، ووقفت ترقص به وسط الفرح، فرح الشهيد وفرح ابنه، مشروع الشهيد.

•••

تلك شجاعة نادرة، تتخطى عتبات الإدراك، وقد لا يقدر عليها الرجال.
«اصحى يا بابا»، هكذا أخذ يصرخ الأب المكلوم وهو يحتضن صغيرته الشهيدة «شهد» ذات الأعوام الثلاثة والطلة الملائكية، التى قضت هى وأمها الحامل فى غارة إسرائيلية إجرامية على غزة منذ أيام.
رحيمة هى الأقدار حين تقضى برحيل الأمهات مع صغارهن مثلما كان الحال مع شهد وأمها، والرضيع الدوابشة وأمه، وإيلان وأمه. هى أقدار تتجلى فيها ترفق الرحمن.
وعجيب أمر ذلك الموت الذى يضفى على الصغار المختارين للشهادة كل هذا البهاء، فالجسد الغض يحتفظ بطراوته الطفولية، والوجه لا تكاد تشوبه إصابة، «شهد» تبدو كدمية جميلة نائمة بكامل ملابسها داخل الكفن، وإيلان يبدو كمن غسلته الملائكة، وحتى الأيقونات الأكبر سنا مثل شيماء الصباغ، هل تذكرونها، كان الدم المنساب من الثقبين على خدها يرسم شكل وادى النيل.
وكأن الموت يستحى من قبض أرواح يعلم أنها رغم استيفاء الآجال قد أُزهقت غيلة وظلما.

•••

والآن يا صديقتى العزيزة.. هل رأيت كم تترفق بك قمصان صغيرك المكوية بعناية والمعلقة فى خزانتها إذ تبثك أسرارها فى انتظار عودته؟ انظرى إلى قمصان الأحرار على امتداد وطنك العربى، وقولى لى ماذا ترين؟ كيف هى قمصان الأطفال فى سوريا واليمن؟ وكيف لنا إذا ما وضعت الحرب يوما أوزارها أن نوفر لأهلهم التأهيل النفسى المناسب لكى يعاودوا الحياة خارج كوابيس الفقد وآلام القهر وأقفاص الجلادين؟

•••

هامش حر:
• «كانت بهجة حياتى أن أرى نفسى فى عينيها».
فيكتور هوجو ناعيا ابنته ليوبولدين

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات