توفيق الحكيم وعودة الوعى! (9) - رجائي عطية - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توفيق الحكيم وعودة الوعى! (9)

نشر فى : الأربعاء 30 أكتوبر 2019 - 10:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 30 أكتوبر 2019 - 10:20 م

الاعتداء الآثم المؤسف
على السنهورى

ظنى أن هذا الاعتداء الغاشم فرع على الصراع الذى اشتعل على السلطة بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر فى فبراير ومارس 1954.. وكان لهذا الصراع جذور دفينة وتعددت الآراء فى وصف فصوله واختلفت فى توصيف أسباب إقحام السنهورى فيه، والراجح أنه تعامل مع الموقف بموضوعية وصدق، ولم يتورط فى الانحياز لطرف دون آخر، وقد روى سليمان حافظ فى مذكراته أنه تصادف فى مارس 1954 أن كان فى زيارة السنهورى بمنزله الذى لزمه لمرضه، وصادف عيادته له حضور محمد نجيب وعبدالجليل العمرى، ودار الحديث بين الثلاثة على استمرار التوتر بين نجيب وصحبه، وأن السنهورى قال يومها لمحمد نجيب بلهجة فيها كثير من الحزم: « إنه ليس من مصلحة البلاد استمرار هذه الحال، وإنه يتعين أن تتم تصفية الموقف فى السر قبل الجهر. وفى سبيل ذلك يجب على كل طرف أن يصارح الآخر بما يبطنه من أسباب الشكوى، وأن يعمل بصدق وإخلاص على إزالتها، مضحيا فى ذلك بكل اعتبار شخصى فداء للمصلحة الوطنية الكبرى، وعلينا جميعا أن نبذل الجهد كله فى المعاونة لتهدئة الحال ».. واستطرد سليمان حافظ فى رواية ما فعله السنهورى يومها لإصلاح ذات البين.
وكما اختلفت الآراء والتفسيرات فى تحليل الأسباب، فإنها قد اختلفت أيضا فى تحديد المسئولين عن الاعتداء الغاشم المبيت الذى وقع على الأستاذ السنهورى فى هذا اليوم المشئوم، واتجهت معظم أصابع الاتهام إلى جمال عبدالناصر على تفسير يقول إنه اعتقد أن السنهورى انحاز إلى محمد نجيب، وأن هذا الانحياز خطير لقامة ومكانة السنهورى، فدبر من ثم هذا الاعتداء.
وفى كتابه: شاهد حق، يؤكد أحمد طعيمة براءة جمال عبدالناصر من تدبير هذا الاعتداء المؤسف، فيورد (ص 82) أن التعليمات الصادرة إلى هيئة التحرير وجميع النقابات والهيئات المشتركة فى حركة مارس 1954، كانت بالمحافظة على الأمن وعدم الاعتداء، وأن الأيام الخمس من 25 إلى 29 مارس مرت بلا حادث يعكر صفو الأمن، ثم أضاف: «إلا أنه للأسف الشديد توجهت بعض المظاهرات إلى مجلس الدولة والاعتداء على رئيسه الدكتور عبدالرزاق السنهورى الذى كان موضع ثقة الرئيس عبدالناصر ورجال الثورة بعد أن سرت شائعة مغرضة بأن مجلس الدولة مجتمع لإصدار فتوى ضد ثورة 23 يوليو وسمعها السيد أحمد أنور قائد البوليس الحربى فى ذلك الوقت ومساعده حسين عرفة، فتدخلا فى سير أحداث 1954 بما لم يطلب منهما وقادا بعض المشتركين إلى مجلس الدولة بدون علمنا فى هيئة التحرير لأنه لو كان فى تخطيط هيئة التحرير الاعتداء لكانت دبرت الاعتداء على نقابة المحامين التى أصدرت قرارها بالفعل ضد الثورة وكانت على رأس النقابات المهنية، أو الاعتداء على جريدة المصرى التى دأبت على شن حملات صحفية ضد الثورة وكانت على رأس صحف المعارضة، ولكن نحمد الله أنه لم يحدث من ذلك شىء مطلقا».
ولكن الأستاذ السنهورى أكد أن جمال عبدالناصر هو مدبر ومنظم هذا الاعتداء واتهمه بذلك اتهاما صريحا فى أقواله للنيابة العامة، ورفض أن يقابله عندما سعى لزيارته بعد الاعتداء عليه. وأكدت زوجته هذه الواقعة وأنها هى التى أبلغت جمال عبدالناصر برفض السنهورى لقاءه وأغلقت بنفسها الباب.
وروى سليمان حافظ فى مذكراته أن السنهورى روى له لاحقا أنه اتصل يومها تليفونيا بجمال عبدالناصر ليحول ــ بصفته وزير الداخلية ــ بين وصول الجموع التى جاءت الأخبار بأنها متجهة إلى مجلس الدولة، إلا أنه لم يلق من عبدالناصر إلا عدم مبالاة يستوقف النظر!
وفى وصف هذا الاعتداء الغاشم المؤسف، روى السنهورى فى أقواله للنيابة العامة أن ضابطا يسمى الصاغ حسين عرفة وكيل البوليس الحربى هو الذى نظم عملية الاعتداء، وأنه حضر إليه ضابط فى مكتبه وطلب منه أن يخرج إلى المتظاهرين ويخطب فيهم، وأن هذا الضابط هو الذى أمر بفتح الباب الخارجى للمجلس للمتظاهرين وكان مقفلا وقاده بيده إلى خارج الغرفة حيث اعتدى عليه المتظاهرون.. « عند ذلك فهمت أن الأمر ليس أمر مظاهرة أخاطب فيها المتظاهرين ــ كما ادعى الضابط ــ بل أمر اعتداء مبيت على، وما لبث المتظاهرون أن دفعونى دفعا إلى الحديقة وتوالى الاعتداء»!!
وفى رواية الأستاذ أحمد حمروش لهذا الاعتداء فى كتابه «شهود ثورة يوليو» ـــ أورد أن « البكباشى حسين عرفة قال إن أحمد أنور رئيس البوليس الحربى أمره بمنع اجتماع مجلس الدولة بالعنف أو بالحسنى، وأنه أعد خطة المظاهرة بالتعاون مع إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة، وأنه توجه لمقابلة السنهورى فى مكتبه ولما رفض مقابلته أرسل شاويشا كان يرافقه إلى طعيمة والطحاوى وتدفقت المظاهرات التى قام بتدبيرها وكان معها بعض جنود المباحث الجنائية فى ملابس مدنية تقدموا نحو المجلس وهم يهتفون «الموت للخونة» وحاصر المجلس الذى كانت أبوابه مغلقة بسلاسل حديدية، وأن رئيس المجلس السنهورى طلب مندوبين من المتظاهرين وتدفق المتظاهرون جميعا يعتدون على المستشارين أعضاء الجمعية العمومية، وتظاهرت بأننى أمنعهم من ذلك ثم قمت بإطلاق طلقتين فى السقف وأمرت بإخراجهم من مبنى المجلس فخرجوا. وعندما حاول السنهورى وأحد المستشارين الآخرين مخاطبتهم من بلكونة المجلس اعتدوا عليهما بالضرب أيضا. وتوتر الموقف واقترحت أن يعد أعضاء المجلس بيانا تذيعه الإذاعة وفعلا كتبوا بيانا لا يؤيد الثورة قرأه مستشار اسمه عبدالخبير فضربوه أيضا هاتفين «تحيا الثورة وتسقط الرجعية»، وأعاد المستشارون صياغة بيان جديد أخذته منهم وافتعلت تمثيلية بأنه قد أغمى على من الجهد وأننى كنت فى موقف المدافع عن أعضاء المجلس...!! وهنا قد حضر صلاح سالم فأعطيته البيان الجديد وأخذه إلى مجلس الثورة وافتعلت جرحا فى نفسى ثم ذهبت إلى دكتور لتوقيع الكشف الطبى على وإثبات أنى جرحت أثناء مقاومة المتظاهرين»..
وهكذا أعد المعتدون أدلة زائفة لإظهار أن الاعتداء كان تلقائيا على الرغم من أنهم دبروه.. وقد أكد ذلك اللواء محمد نجيب وأورد فى مذكراته بعنوان «كلمتى للتاريخ» ص 224 أن المظاهرة التى دبرت للاعتداء على السنهورى خرجت من مبنى هيئة التحرير مكونة من بعض عمال مديرية التحرير وجنود البوليس الحربى تحت قيادة حسين عرفة قائد المباحث العسكرية وعدد آخر من ضباط البوليس الحربى ـــ وذكر أن المتظاهرين اقتحموا مبنى المجلس ودخلوا قاعة اجتماع الجمعية العمومية واعتدوا بالضرب على الدكتور السنهورى وعلى باقى الأعضاء وأجبروهم على التوقيع على بيان بتأييد مجلس الثورة، وإصرار المعتدين على إلزام المستشارين بتوقيع بيان لتأييد الجانب العسكرى الذى يسيطر على مجلس الثورة يؤكد أن الاعتداء كان مدبرا من جانب المسيطرين على هذا المجلس الذين استغلوه لفرض الحكم العسكرى ومنع إقامة حكم مدنى كما كان يطلب السنهورى ومحمد نجيب والرأى العام السائد فى ذلك الوقت.
* * *
لقد دفع السنهورى ثمن مواقفه، وفرضت عليه العزلة الإجبارية فى العهد الناصرى حتى عام 1970 قبل وفاته سنة 1971، وفصلته الحكومة سنة 1934 من الجامعة لأسباب سياسية، ودأبت حكومات الوفد على مضايقته، فعندما عاد للعراق سنة 1943 لاستكمال مشروع القانون المدنى العراقى الذى كان قد بدأه بدعوة من حكومتها، ضغطت الحكومة الوفدية على الحكومة العراقية فاضطر للسفر إلى دمشق، وبدأ وضع مشروع القانون المدنى لها، ولكنه عاد مرة أخرى إلى مصر بسبب ضغوط حكومية، إلا أن أحدا لم يستطع أن يصادر السنهورى الفقيه الضليع.. ففضلا عن حمله حقيبة وزارة المعارف أربع مرات فى الحكومات السعدية، وقام فى أثنائها بتأسيس جامعة الإسكندرية، فإنه قد عين عضوا بمجمع اللغة العربية سنة 1946، ووضع مشروع معهد الدراسات العربية العليا، وشغل رئاسة مجلس الدولة منذ مارس 1949، وأحدث به أكبر تطوير تنظيمى وإدارى فى تاريخه، وأصدر أول مجلة له، ولم تجد ثورة يوليو 1952 بدا من الاستعانة بعلمه وفقهه، فى وضع وثيقة تنازل الملك عن العرش، وفى وضع قانون تحديد الملكية الزراعية، وفى اللجنة التى شكلت لوضع دستور مصرى بعد إلغاء دستور 1923، والتى صدر عنها فى فبراير 1953 الإعلان الدستورى الذى ظل معمولا به حتى وضع دستور 1956، وقام ــ دون مقابل ــ بوضع القانون المدنى الليبى الذى صدر 1953، كما وضع المقومات الدستورية والقانونية لكل من مصر وليبيا والسودان والكويت والإمارات العربية المتحدة، ولم تسمح له السلطات المصرية بالسفر ــ بعد فرض العزلة عليه ــ إلا مرة واحدة سنة 1960 إلى الكويت حيث وضع دستورها واستكمل المقومات الدستورية القانونية التى تؤهلها لعضوية الأمم المتحدة. أما آثاره الفكرية والقانونية، فإن ما أشرنا إليه سلفا لا يحصى ولا يستقصى الأعمال الغزيرة لهذا الفقيه الجليل التى نحتاج إلى زمن وجهد لجمعها من المذكرات القانونية والمجلات العلمية والأبحاث العديدة التى قدمها فى اللجان وفى المؤتمرات العديدة التى شارك فيها، وفيما قدمه من أبحاث فى المؤتمرات الدولية للقانون المقارن.
* * *
وظنى أنه لا عذر للأستاذ توفيق الحكيم فى عدم التفطن إلى دلالة هذه الواقعة الخطيرة التى جرت فى 29 مارس سنة 1954 إذا كان قد علم بها، فقد كانت جديرة مع غيرها بحماية الوعى من الغياب أو التغييب!

Email :rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com

التعليقات